برهانيات كوم
الحديث الرابع والعشرون - أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن السائب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال (جاءني جبريل فقال - مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير).الحديث الخامس والعشرون - أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد أن عبداللّه بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، لا يأتيان السوق إلا لذلك.وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال - أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرته.(فصل) - إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنها لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه، إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه.وأما معارضته بحديث (خير الذكر الخفي) فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث (المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارىء، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم - يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار، انتهى. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وب يحصل الجمع بين الأحاديث. فإن قلت - قال اللّه تعالى {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة، ودون الجهر من القول}.قلت - الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه:الأول: أنها مكية كآية الإسرار {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به} وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله بترك الجهر سدا للذريعة، كما نهي عن سب الاصنام لذلك في قوله تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم} وقد زال هذا المعنى وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.الثاني: أن جماعة من المفسرين - منهم عبدالرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير - حملوا الآية على الذاكر حال قراءة وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله - {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. قلت - وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكون باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر اللّه، ولذا ختم الآية بقوله {ولا تكن من الغافلين}.الثالث: ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعه.قلت: ويؤيده من ا لحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته، فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويسمعون قراءته وإنه ينطر بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فسَّاق الجن ومردة الشياطين).فإن قلت - فقد قال تعالى - {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.قلت: الجواب عنه من وجهين:أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامه رضي الله عنه أن عبداللّه بن مغفل سمع ابنه يقول: اللّهم أني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول - سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء، فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمراد.الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار لأنه أقرب إلى الإجابة ولذا قال تعالى: {إذ نادى ربه نداء خفي} ومن ثم استحب الإسرار بالدعاء في الصلاة اتفقا، لأنها دعاء.فإن قلت - فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال - ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال - (هؤلاء الذين يزعمون أن عبداللّه كان ينهى عن الذكر ما جالست عبداللّه مجلساً قط إلا ذكر اللّه فيه) وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال: (إن أهد ذكر اللّه ليجلسون إلى ذكر اللّه، وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر اللّه تعالى ما عليهم منها شيء).
تعليقات: 0
إرسال تعليق