شَرْحُ الصَّلَوَاتِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
الصَّلاَةُ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهَا صِيَغٌ كثيرةٌ ؛ وذلكَ لأنَّ درجاتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تَتَنَاهَى ولاَ حَصْرَ لَهَا ، فكُلُّ مَنْ وَصَلَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فدَخَلَ الحَضْرَةَ النَّبَوِيَّةَ فلاَ بُدَّ وأنْ يَصْطَبِغَ بِنُورِ تَجَلِّي هذهِ المَرْتَبَةِ ، ولِذلكَ تَعَدَّدَتِ الصّياغاتُ لِتَعَدُّدِ مَرَاتِبِهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ حَيْثُ هوَ أصْلُ الوجودِ كُلِّهِ عالِيهِ وسافلِهِ ، وفِي هذَا يَقُولُ مَوْلاَنَا الشَّيْخُ - رضي الله عنه - :
وصَدَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ سُئِل :" مَا أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه ؟ " فقال { نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِر } (1) ، ولِهذَا النُّورِ الأوَّلِ الذي أشارَ إلَيْهِ الحَقُّ في قرآنِهِ قِصَّةٌ : حَيْثُ قال {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيد} (2) ؛ فهذَا النُّورُ النَّبَوِيُّ الأوَّلُ هوَ الخَلْقُ الأوَّلُ في هذهِ الآيةِ ، والخَلْقُ الجديدُ هوَ تَنَزُّلُ هذَا النُّورِ في مَرَاتبَ فَصَّلَتِ الإجمالَ الأوَّلَ ؛ وذلكَ لِحكمةٍ إلهيّةٍ وإرادةٍ عُلْي ؛ حَيْثُ قالَ اللهُ في الحديثِ القدسيّ { كُنْتُ كَنْزاً لاَ أُعْرَفُ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ خَلْقاً ، فَعَرَّفْتُهُمْ بِي فَعَرَفُونِي } (3) .
__________
(1) 1- وهو حديث طويل رواه الإمام عبد الرّزّاق في كِتَاب " جَنَّة الخلد " .
(2) 2- سورة ق : 15
(3) 3- وفِي لَفْظ { فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِمْ ، فَبِي عَرَفُونِي } قال القاري : مَعْنَاه صحيح مستفاد مِنْ قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون} أيْ لِيَعْرِفُونِي كَمَا فَسَّرَه ابن عبّاس رضي الله عَنْهُمَا ... وهو واقِع كثيراً في كلام الصّوفيّة ، واعتمَدوه وبَنَوْا عَلَيْه أصولاً لَهُمْ .
وهذَا التَّفْصِيلُ هوَ المُشَارُ إلَيْهِ بِـ" المَرَاتِبِ " ؛ حَيْثُ تَعَيَّنَتْ لهُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ عُظْمَى صَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا أهْلُ اللهِ كُلٌ بِمَا هوَ أهْلٌ لهُ في كُلِّ واحدةٍ مِنْهَا وبمُقْتَضَى كُلِّ واحدةٍ مِنْهَا ، ولِذلكَ قُلْنَا : إنَّ تَعَدُّدَ صياغاتِ الصّلاةِ على النَّبِيِّ الأعظمِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا هوَ لِتَعَدُّدِ مَرَاتِبِ تَنَزُّلاتِهِ مُنْذُ كانَ - صلى الله عليه وسلم - نُوراً في غَيْبِ الأحديّةِ : وهِيَ الحضرةُ الإلهيّةُ التي خَلَقَ اللهُ نُورَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا ، وتُسَمَّى " حَضْرةَ مَصْدَرِ النُّورِ " أوِ " الحَضْرَةَ الأحديّةَ " أوْ " حَضْرَةَ غَيْبِ الأحديّةِ " ، فكانَ نُورُهُ - صلى الله عليه وسلم - مُبْهَماً في هذهِ الحَضْرَةِ غَيْرَ متعيّنٍ ، ولِذلكَ تُسَمَّى هذهِ المَرْتَبَةُ " مَرْتَبَةَ اللاّ تعيينيّةِ " أيْ قَبْلَ تعيينِ نُورِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ خَلَقََ اللهُ نُورَهُ - صلى الله عليه وسلم - فكانَتْ قبضةُ النُّورِ في فَجْرِ الوجودِ فحصلَ التّعيينُ في ذلكَ الحينِ ، وتُسَمَّى هذهِ الحَضْرَةُ بِـ" مَرْتَبَة التّعيينيّةِ " ، ثُمَّ تَرَحَّلَ النُّورُ في حُجُبِ الجلالِ العشرةِ المُعَبَّرِ عَنْهَا بِـ" اللّيالي العَشْرِ " في قولِهِ تعالى {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر} ، فكانَتْ تَسْمِيتُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَجْرِ الوجودِ وحينَ تَرَحُّلِهِ في الحُجُبِ العشرةِ بِـ" الحقيقةِ الأحمديّةِ " ، ثُمَّ انْعَقَدَ هذَا النُّورُ لَمَّا تَنَزَّلَ في الحِجَابِ العاشرِ ، وسُمِّيَ في هذهِ المَرْتَبَةِ بِـ" الذّاتِ الأحمديّةِ " المُعَبَّرِ عَنْهَا بِـ" الياقوتةِ الحمراءِ " في قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ يَاقُوتَةً حَمْرَاء } ، ثُمَّ تَخَرَّجَتِ الحقيقةُ المُحَمَّديّةُ مِنَ الذّاتِ
الأحمديّةِ ، فكانَتْ هذهِ " الحقيقةُ المُحَمَّديّةُ " أصْلَ الوجودِ : ظاهرِهِ وباطنِهِ أرواحِهِ وأجسادِهِ ، فكانَ الوجودُ كُلُّهُ مُنْدَرِجاً في هذهِ الحقيقةِ اندراجَ الحروفِ في المحبرةِ ، وهِيَ المَرْتَبَةُ التي صَلَّى فِيهَا سَيِّدِي عَبْدُ السّلامِ بنُ بشيشٍ - رضي الله عنه - على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَيْثُ الهويّةِ النّبويّةِ لِلحقيقةِ المُحَمَّديّةِ التي انْشَقَّتْ مِنْهَا كُلُّ الأسرارِ ولِذلكَ سُمِّيَتْ بِـ" حَضْرَةِ اللاّ تسميةِ " ؛ لأنَّ الهويّةَ إشارةٌ لِعدمِ التّسميةِ معَ الوجودِ التّامِّ ، ثُمَّ تَجَلَّى اللهُ على هذهِ الحقيقةِ المُحَمَّديّةِ فخَلَقَ مِنْهَا الوجودَ عالِيَهُ وسافلَه ..
كُلُّ مَا سَبَقَ بيانُهُ مِنْ مَرَاتِبِ تَرَحُّلِ نُورِهِ وتَنَزُّلاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - اجْتَمَعَتْ في ذاتِهِ الشّريفةِ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ ظَهَرَ بشَراً كاملاً سويّاً في أرْضِ مكّةَ مِنْ أبوَيْهِ الشّريفَيْنِ - صلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسلَّمَ أجمعينَ - وسُمِّيَ بالاسمِ الشّريفِ " مُحَمَّدٍ " - صلى الله عليه وسلم - ، فسُمِّيَتْ هذهِ الحَضْرَةُ بِـ" حَضْرَةِ التّسميةِ " حَيْثُ ظَهَرَتْ في أرْضِ الحِجَازِ " الذّاتُ المُحَمَّديّة " .
- كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ تَنَزُّلِهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَوْعَبَتْ أسرارَ المَرَاتِبِ التي تَعْلُوهَا ..
- صلَّى سَيِّدِي إبراهيمُ الدّسوقيُّ - رضي الله عنه - على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأعلى الصّلواتِ ، وذلكَ في حَضْرَةِ اللاّ تعيينيّةِ وسُمِّيَتِ بِـ" الصّلاةَ المطلسَمةَ " ، ثُمَّ صلَّى عَلَيْهِ في الحَضْرَةِ التّعيينيّةِ في فَجْرِ الوجودِ وسُمِّيَتْ بِـ" الصّلاةِ الذّاتيّةِ المُحَمَّديّةِ " .
- مِنْ نِعَمِ اللهِ على طريقتِنَا أنَّ أبناءَهَا جميعاً مأذونُونَ في هاتَيْنِ الصّلاتَيْنِ [ المطلسمةِ والذّاتيّةِ ] بالإضافةِ إلى الصّلواتِ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي أُذِنَّا فِيهَا مِنْ حَضْرَتَيِ اللاّ تسميةِ والتّسميةِ ، بِمَعْنَى أنَّنَا بفضلِ اللهِ تعالى نُصَلِّي على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيْ جميعِ المَرَاتِبِ ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيم .
تعليقات: 0
إرسال تعليق