التصوف بكل لغات العالم :
الموت والحياة
يعتقد كل ضال من الخوارج الوهابية وغيرهم بأن الموت عبارة عن العدم. ولا قائل به غير الكافرين الذين هم على مبادئ الشيطان وحزبه، فهم على تلك المبادئ تبع لذلك الحزب، لأن العقلاء يفهمون أن الخلق في كل شيء على حالتين إيمان وكفر، ضلال وهدى، حتى في الحزبية حزب الشيطان وحزب الرحمن وهكذا كما لا يخفى على كل ذي بصيرة- قال الله تعالى في عقيدة الكافرين ومن على مبادئهم {يا أيها الذين آمنوا لا تتولو قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فكل هؤلاء شركاء في العقيدة فيقولون: إن الموت عدم وفناء وعليه يبنون أن الذاهب للميت ذاهب إلى عدم وفناء، وهو معارض لصريح القرآن والسنة، فعقلاء الأمة رضي الله عنهم يقولون: إن الموت والحياة، وصفان يقومان بالموصوف في كل يشء بحسب قوله تعالى {الذي خلق الموت والحياة} الآية فموت الأرض، عدم النبات، بها، وحياتها بالنبات فيها قال تعالى {والله أنزل من السماء ماءاً فأحيينا به الأرض بعد موته} وموت الكافر وهو حي يجري على الأرض بعدم الإيمان كما قال تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} الآية فلا يخفى أن الموت في الحيوان وصفه بعدم الحركة، وفي النبات يبسه وفي الجماد تفرق أجزائه. والحياة في كل ذلك بضده يعني في الحيوان بالحركة، وفي النبات بالخضرة، وفي الجماد بتماسك أجزائه. ولما كانت الحياة منها ما هو معتبر الصنعة، ومنها ما هو غير معتبر فعد الله تعالى المؤمن به وبأنبيائه وآياته حياة طيبة. ومن كان بخلاف ذلك فليس بذي حياة طيبة فحياته كحياة غيره من غير الآدميين. ولما كان وصف الموت والحياة مشتبهان في حالة النور واليقظة فرق الله تعالى بينهما بقوله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} الآية.
فحال النائم كحال الميت سواء بسواء في عدم الحركة في كل فالفارق بينهما قيام الحي يسعى في الأرض إلى أجل مسمى والميت عدم الحركة مطلق.
ولما كان الموت والحياة عنواناً لهاتين الصفتين. ذكر الله عز وجل الفارق بينهما بالنسبة للدنيا والآخرة إذ قد سمي سبحانه وتعالى لكل منهما حياتاً وموتاً فبين عز من قائل أن حياة الآخرة أرقى وأعلى وأرفع من حياة الدنيا فقال تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} الآية وفي الآية الأخرى {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} وباعتبار ما قدمنا من أن الموت عدم الحركة والحياة الحركة فهم الكافر قبل وجوده في الدنيا موت وفي الدنيا حياة، وفي القبر موت وبعد قيامه ودخوله جهنم حياة أخرى فقال: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} الآية. فتعرف من هنا ومما قدمنا لك أن الله عز وجل ذكر أن للدنيا حياة وللآخرة حياة فكيف يقر ويقول المخالف الملحد بحياة الدنيا وينكر حياة الآخرة التي هي أحيا من حياة الدنيا بصريح كلام رب العالمين وبيان سنة سيد الأولين ولا فاصل ولا فارق ولو لحظة بين الحياتين بل ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة أرقى منها متصلاً بها اتصال اليقظة بالنوم والجوع بالشبع والألم بالصحة، والفقر بالغنى والكفر بالإيمان، والليل بالنهار، فهل يا أخا العقل فاصل بينهما أو فتور؟ إن ربك القادر جل وعلا جعل الموجودات متصلة لا انفصال بينهما إلا في عقل المخالف ونظر أعمى البصيرة والله يهدي من يشاء إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
واعلم أن الموت والحياة ترق في الوجود بالدليل العقلي المستفاد من الدليل النقلي: الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فالعقلي هو اعتقاد أنه ما تعلقت قدرة الحق عز وجل بإيجاد موجود إلا ويترقى في الحياة أبداً لا يلحقه العدم بالمشاهدة والعيان وذلك في كل شيء بحسبه بمعنى أن ترقيه في الوجود بالانتقال من حالة إلى حالة أرقي منه. إذ الموجد جل وعلا ما أوجده إلا بمقتضى كماله، وكمالاته سبحانه وتعالى لا تتناهى إذ ما من كمال إلا وعند الله أكمل منه. وأيضاً أنه تعلقت صفته تعالي به وهي حي بالموجود ولو انعدم هذا الموجود لتعطلت الصفة التي هو أي الموجود بها حي، وصفات الله تعالى لا تتعطل.
وأما النقلي فقد قال تعالى بعد أن سمي الحياتين الدنيا والآخرة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وقال صلى الله عليه وسلم مفصلاً لتلك الحاتين بقوله الشريف (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولما كان حال الدنيا مبنياً على تفاوت ودرجات الموجودات فيها فقد قال تعالى في النبات {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل}.
وفي الجمادات قال تعالى {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} الآية. وقال تعالى في الدواب والهوام والحشرات والطيور والوحوش والأسماك أنهم كبني آدم في الأحوال الاجتماعية {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وفي بني آدم الذي هو محل نظر الحق عز وجل من هذا الخلق الذي خلق له تلك الأشياء جمعاء وغيرها لم يجعل واحداً منهم يماثل الآخر بل التفاوت في جميع أفراده بل ما اشتمل عليه الفرد من الجزيئات في عموم مركباته جل الصانع المبدع قال تعالى {ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات} وفيما فيه فخره في الدنيا وعزه وشرفه فيما بينهم قال تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وفيما فيه جاههم من حيث الغنى بالمال قال تعالى {ولقد فضلنا بعضكم على بعض في الرزق} وهذا في عموم أفراد بني آدم فقد جعل تعالى الفروق بينهم متباينة لا ينكرها إلا كل مكابر من الذين يقولون اعمل وأنت تكون مثله.
أما من هم أفضل بني آدم و هم أقسام ثلاثة أنبياء. فقد قال الله تعالى فيهم {و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض} و فيمن هم أفضل أفضلهم و هم الأنبياء و الرسل قال تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} و فيمن هم أفضل منهم أفضلهم و هم أولو العزم من الرسل ؟ قال تعالى {و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظ} و في الآية الثانية في بيان أولي العزم قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين} الآية.
فهذا حال أهل الدنيا الذي لم يجعل الحق عزوجل في فرد منه ما يماثل الآخر لأنه لا ضرورة إلى الثاني و قدرة الكبير المتعال صالحة للتنويع في الإبداع و الإيجاد فالمخالف لإجماع المسلمين يقول في الولي هو مخلوق مثلك. اعمل و أنت تكون مثله أو أحسن منه. فهو على قدم من قال أولاً للحق عزوجل {خلقتني من نار و خلقته من طين} بل تطاول و تعدى طوره بقوله {أنا خير منه} فتجد هذا المخالف لا يحيد عن قول داعيه الأول ليكون من حزبه. أو هو يقول بقول الطبيعيين و هم على مبدأ ابليس أيضاً إن الخلق مثل مصنع يصب و ينتج و المعروف في قولهم و ما يهلكنا إلا الدهر. مع أنه سبحانه و تعالى بين لعباده أن الحياة الدنيا على درجات و أنواع و أنه سبحانه و تعالى المبدع لكل شيء، قال تعالى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.}
و لما كانت الدنيا كذلك فقد جعل كل ما في الآخرة كالدنيا غير أنه أرقى و أرفع في كل أحوال الموجودات، قال تعالى {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيل} و خاصة من خلقت له هذه الموجودات و قد تكفلت السنة المطهرة ببيان ذلك في كل شيء بحسبه.
و أما صريح القرآن العزيز في بيان حال بني آدم بعد خروج أرواحهم من الحياة الدنيا و انتقالها إلى الآخرة في كل مؤمن و كافر بأن تكون حياته مستمرة لا يعتريها ضعف و لا انفعال فقد قال تعالى {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} هذا حال الكافرين و المنافقين و الضالين فحياتهم أرقى من الحياة الدنيا لشعورهم بالعذاب بكافة أنواعه و لا شك أنه أشد من آلام الدنيا و أهوالها و أما حال المؤمنين فقد قال تعالى فيهم {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.}
فبين عز من قائل أن الدخول ما بقيت الدنيا ليس دخولاً حقيقياً بل على الأبواب بما يشعر به بمآله كما قال تعالى { و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} و هذه الآية اغتر و ضل في فهم معناها الكثير من الضالين إذ يقولون بأن بين الحياتين الدنيا و الآخرة حياة برزخية و هم لا يفهمون معنى البرزخ و حقيقته هو الحائل بين الشيئين بقدرة ربه سبحانه إذ يقول تبارك و تعالى {مرج البحرين يلتقيان بينهم برزخ لا يبغيان} فظن هؤلاء أن البرزخ حياة بين الحياتين و هم مخطئون في عقيدتهم غافلون عن فهم ما جاء في الكتاب و السنة و فاتهم قوله تعالى {و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} فمن أين لهم القسم الثالث و هو الحياة البرزخية، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. و أما ما جاء في السنة من أن الموت ترق في الحياة فدليله ما ورد في الصحاح من أن النبي صلى الله عليه و سلم قال (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها أو أحد يحب الموت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه و سلم إن العبد إذا احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه في الحالة التي يغيب فيها عن الدنيا و ما فيها و من حوله و لا يرى إلا الملائكة. و رأى ما أعده الله له من النعيم المفيم رغب فيه فأحب لقاء الله فأحب الله لقائه و إن العبد إذا احتضر و رأى ما أعده الله من العذاب الأليم كره فيه فكرة لقاء الله فكره الله لقاءه.
و هذا معنى قولهم فيما قص الله تعالى لنا عنهم {و ما كنا نعمل من سوء} فترد عليهم الملائكة بقولهم {بلى إن الله عليم بما تعملون فادخلوا أبواب جهنم} و في الآية الأخرى {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} فصريح القرآن أن حياة بني آدم بعد مفارقة الدنيا أحيا من حياة الدنيا إذ في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال (إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة و العشاء فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة و إن كان من أهل النار فمن أهل النار) و لا يشعر بذلك و يدركه حقاً إلا من كان حياً و في الحديث ا لآخر ( إذا وضع أحدكم في قبره فيقال له انظر فينظر إلى النار فيقال هذا مقعدك في النار و قد أبدلك الله خيراً منه في الجنة فينظر إلى الجنة فيجد مكانه و يقال له هذا مكانك من الجنة) و في الحديث الآخر ( إذا وضع أحدكم في قبره فيأتيانه ملكان له فيقعدانه و يقولان ما علمك بهذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو محمد جاءنا بالبينات و الهدى فأجبناه و اتبعناه هو محمد ثلاثة و أما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته و يقال له لا دريت و لا تليت و يضرب بمقرعة من حديد لو ضرب بها الجبل لذاب) و في الآخر قوله صلى الله عليه وسلم (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا حجر و لا مدر و لا شيء إلا و يشهد له يوم القيامة) و من المعلوم أن الميت شيء و يشهد ضمن الشهداء و الشهادة لا تعقل إلا من حي فصريح القرآن و بيان السنة عليأن ميت الآدمي حي أحيا من حياة الدنيا وناهيك بحديث أهل القليب قليب بدر و هو بعد أن انتهت المعركة و قتل فيها سبعون من صناديد قريش و أسر مثلهم فجعل يمر صلى الله عليه وسلم على الصرعى و يقول لهم (يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أتناجي موتى يا
رسول الله؟) فقال: (ما أنت بأسمع منهم و لكن لا يجيبون) فهاهم الكفار يخاطبهم صلى الله عليه و سلم لعلمه بحياتهم أحيا من حياة الدنيا و ها هو حديث الصحاح (بينما نحن جلوس إذ سمعنا صوتاً بعد العصر في ضواحي المدينة فقلنا ما هذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يهود تعذب في قبرها) و في الحديث دلالة على جواز قراءة القرآن على القبور ووصول الثواب للميت أن الرسول صلى الله عليه و سلم (مر على قبرين فقال يعذبان و ما يعذبان في كبير) الحديث أليس كل ذلك من صريح القرآن و بيان السنة يكفيك دليلاً على أن حياة ميت الآدمي في قبره أحيا من حياة الدنيا و أرقى منها بصريح القرآن و بيان السنة و إذا كان هذا في الكافر أفلا يكون في المؤمن لمجرد الايمان أرقى؟ و في العبد الصالح أرقى منه؟ و في الولي أرقى منه؟ و في الشهيد أرقى و أرقى؟ و في الأنبياء و المرسلين أضعاف ذلك؟ خصوصاً و قد قال تعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} و لا تنس قوله تعالى { و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيل} حتى أن بعض المتحققين من خيرة العلماء العاملين الشارحين لبيان سنة سيد المرسلين عن قوله في الحديث السابق في سؤال الملكين للميت ( ما علمك بهذا الرجل؟ فينظر الميت فيجد أمامه صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمؤمن من يراه كأنه معه بالأمس فيقول هو محمد) الحديث. و لذا أجمعوا على أن ما من ميت يموت مؤمناً كان أو كافراً أو منافقاً أو ضالاً إلا و تحضر له صورة من صور حضرته صلى الله عليه و سلم و قدرة الله تعالى صالحة لذلك و لعلك قد فهمت من حياة الآدميين أن أحيا حياة فيهم و أرقاها حياة الأنبياء و المرسلين فما بالك بحياة سيد العالمين.
أليست أعم و أشمل؟ و أوسع من حياة جميع الآدميين و لعله يقرب لك فهم الحديث الصحيح الذي أفرد به بعض أفاضل الأمة مؤلفاً خاصاً و هو قوله صلى الله عليه و سلم (حياتي خير لكم و مماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم بالغداة و العشي فما وجدت خيراً حمدت الله تعالى و ما وجدت بخلاف ذلك استغرت لكم.)
و يكفينا من تعليمه الشريف صلى الله عليه و سلم لزيارة الأموات بياناً على حياتهم، و علم الزائر بقوله (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) الحديث. ففي هذا أكبر الدلالة على حياتهم إذ لا يسلم صلى الله عليه و سلم على أموات، و لا يبين للأمة أن تسلم في أموات لا يحسون و لا يشعرون و لا يعرفون من المسلم عليهم، ففي الحديث المروي عن الترمذي ما يؤيد حديث الزيارة و حياة المزور إذ يقول صلى الله عليه و سلم (ما من عبد يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا و يسلم عليه فيرد عليه السلام و يعرفه) وناهيك بما رواه ابن سعد رضي الله عنه أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تزور النبي صلى الله عليه و سلم و أباها قبل أن يدفن معهما عمر رضي الله عنه غير مقنعة و لما دفن رضي الله عنه كانت تدخل عليهم زائرة مقنعة لأنه وجد مع أبيها و زوجها أجنبي، و لأي شيء يا أخا العقل كانت رضي الله عنها تتقنع بعد عمر ما ذاك إلا لأنها تعلم بحياتهم، و اعلم أن حياتهم عكس الدنيا مع ما هم فيه من النعيم أو الجحيم يدركون كل شيء الدنيا و الآخرة.
فحياة أهل القبور من بني آدم أحيا من حياة الدنيا بصريح القرآن و بيان السنة. و يعلمون بمن يدعو لهم أو عليهم و بمن هو راض أو ساخط عليهم، وهذا معنى أن حياة الآخرى أوسع و كل من مات من أهل الدنيا صار في الآخرى، و أما قولهم أن الحياة الآخرة بعد القيام من القبور فهذا كذبُ محضُ و افتراء على الله و رسوله في جميع ما بينه لعباده إذ من أكبر الدلائل على أن حياة الآخرة التي هي أكبر و أحيا من حياة الدنيا و مبدؤها بمفارقة حياة الدنيا قوله تعالى {و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون} فجميع عقلاء الأمة من المفسرين على أن المراد باليوم أي اليوم الذي تفارق فيه حياة الدنيا إذ لا يخفى أن هؤلاء لم ينظروا إلا إلى ما ظهر من الأحوال في نظرهم ومعقولهم وأما عقائدهم في الأموات كعقائد الكافرين.
إذ يقولون: عظام الميت فنيت و بليت و لا أثر لحياته فهو كقول الكافرين الذين عارضوا بيان الحق عزوجل في قولهم {أئذا كنا عظاماً و رفاتاً لمبعوثون} و قولهم {أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد} فحكى الحق عزوجل عنهم بقوله {أولئك الذين كفروا بربهم و أولئك الأغلال في أعناقهم و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.}
فهم لم يفطنوا حتى و لا لقول أمثالهم الذين كانوا قبل الإسلام وهم يقولون شيئان لا يفنيان؟ المادة والروح فهذا هو الصواب بعينه وهو رأي لبعض الفلاسفة المتحققين في علومهم بعقولهم التي ميزوا بها بعض الموجودات عن بعض فهم أحسن من الخوارج عقيدة و إدراكاً و تمييزاً إذ عقلاء الأمة يقولون بمفارقة الروح للجسد في هذه الحياة الدنيا لا تفارقه مفارقة كلية بل تكون متصلة بمادته و جزئياته اتصال الشعاع بالمقابل له مع انكشاف ما هو عليه و لا حق به وقائم بذاته حتى يكون الواصل بالموصول على ما هو عليه حقيقة بينة.
فكل من تفرقت أجزاؤه و تباينت أوصاله و تباعدت ذراته لا بد من اتصال الشعاع الخاص به على كل تلك الأفراد و الجزئيات حتى ينطبق عليه بيان ادراكه بالنعيم أو العذاب، فيدخل في ذلك من تقطعت أجسامهم و تمزقت أشلاؤهم و أكلتهم السباع و الاسماك و الطيور، و من أبلتهم الأرض السبخة فمثلهم كمثل من حدث عنهم الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم في الحديث المروي عند أصحاب السنن و المسانيد (أن رجلاً ممن كان قبلكم أحضر بنيه عند وفاته و قال لهم: إذ أنا مت فاحضروا لي حطباً وأحرقوني حتى إذا امتحشت فانظروا يوم رحا فاذروني فيه ففعلوا به ذلك فقال الله تعالى له : لم فعلت هذا؟ قال حياء منك يا رب فقال الله عز و جل عبدي استحى مني فاستحييت منه فغفر الله له.)
و أما من يدفنون بكامل أجسامهم فهم على قسمين فمنهم محترم الذات و مكرك الخلقة فلا تمس الأرض أجسامهم و لو دفنوا في السبحة كما شوهد ذلك فهم في قبورهم كيوم دفنهم، و منهم غير ذلك و يدفنون في الارض الرملة الجافة فأجسامهم تيبس و تجف كالخشب و غيره فأمرهم واضح، اتصال شعاع الروح بهم اتصالا منحصراً و عليه يدركون النعيم و العذاب بالروح و الجسد معاً إذ لا قائل بتعذيب الروح دون الجسد ضرورة اعتراضها على خالقها لا أعضاء لي فعلت بها و لا على الجسد فقط ضرورة اعتراضه على خالقه لا حركة لي فتعين أن يكون العذاب و النعيم على الروح والجسد معاً لاتصالهما بالفعل اتصالاً مشتركاً مباشراً لما يستفاد من قول الله عز و جل في وصف أهل النعيم فلا يكون إلا بالإنسان الكامل بالروح و الجسد. و في أهل الجحيم كذلك قال تعالى: {إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله لهم عذاب جهنم} الآية. و قال تعالى: {إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} الآية بعد أن عرفت مما تقدم أن شيئان لا يفنيان أزيدك وضوحاً هو أن الله تعالى جعل في تركيب ابن آدم مدارك يدرك بها الخير و ضده و هي الحواس الخمس الباطنية التي مقرها الرأس و جعلها الصانع الحكيم سبحانه متصلة بالحواس الخمس الظاهرية التي هي البصر و السمع و الشم و الذوق و اللمس فالإنسان إذا نام يرى بهذه صديقاً له و يرى ما عليه من الثياب و يشم رائحة ما يطعمه و يسقيه و يرى كل أنواع الكرم له و هو لم يمش و لم يتحرك و لم يتكلم و لم يأكل بل أدرك كل ذلك بالروح بالحواس الخمس الباطنية المتصلة بالحواس الخمس الظاهرية فبانتباهه من النوم تحكيه الحواس الخمس الظاهرية رأى العين فالنعيم و الجحيم في القبر هكذ. لأن الروح لا تفارق الجسد أبدا و هي اتصالها بالحواس الخمس الباطنية مصداق قوله صلى الله عليه و سلم (إن الميت ليعلم بمن يغسله و من يكفنه و من يحمله و من يدليه في القبر) فالذي تأكله الأرض.
الروح متصلة بذرات رأسه ليشعر بالنعيم أو الجحيم و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الموت والحياة
يعتقد كل ضال من الخوارج الوهابية وغيرهم بأن الموت عبارة عن العدم. ولا قائل به غير الكافرين الذين هم على مبادئ الشيطان وحزبه، فهم على تلك المبادئ تبع لذلك الحزب، لأن العقلاء يفهمون أن الخلق في كل شيء على حالتين إيمان وكفر، ضلال وهدى، حتى في الحزبية حزب الشيطان وحزب الرحمن وهكذا كما لا يخفى على كل ذي بصيرة- قال الله تعالى في عقيدة الكافرين ومن على مبادئهم {يا أيها الذين آمنوا لا تتولو قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فكل هؤلاء شركاء في العقيدة فيقولون: إن الموت عدم وفناء وعليه يبنون أن الذاهب للميت ذاهب إلى عدم وفناء، وهو معارض لصريح القرآن والسنة، فعقلاء الأمة رضي الله عنهم يقولون: إن الموت والحياة، وصفان يقومان بالموصوف في كل يشء بحسب قوله تعالى {الذي خلق الموت والحياة} الآية فموت الأرض، عدم النبات، بها، وحياتها بالنبات فيها قال تعالى {والله أنزل من السماء ماءاً فأحيينا به الأرض بعد موته} وموت الكافر وهو حي يجري على الأرض بعدم الإيمان كما قال تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} الآية فلا يخفى أن الموت في الحيوان وصفه بعدم الحركة، وفي النبات يبسه وفي الجماد تفرق أجزائه. والحياة في كل ذلك بضده يعني في الحيوان بالحركة، وفي النبات بالخضرة، وفي الجماد بتماسك أجزائه. ولما كانت الحياة منها ما هو معتبر الصنعة، ومنها ما هو غير معتبر فعد الله تعالى المؤمن به وبأنبيائه وآياته حياة طيبة. ومن كان بخلاف ذلك فليس بذي حياة طيبة فحياته كحياة غيره من غير الآدميين. ولما كان وصف الموت والحياة مشتبهان في حالة النور واليقظة فرق الله تعالى بينهما بقوله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} الآية.
فحال النائم كحال الميت سواء بسواء في عدم الحركة في كل فالفارق بينهما قيام الحي يسعى في الأرض إلى أجل مسمى والميت عدم الحركة مطلق.
ولما كان الموت والحياة عنواناً لهاتين الصفتين. ذكر الله عز وجل الفارق بينهما بالنسبة للدنيا والآخرة إذ قد سمي سبحانه وتعالى لكل منهما حياتاً وموتاً فبين عز من قائل أن حياة الآخرة أرقى وأعلى وأرفع من حياة الدنيا فقال تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} الآية وفي الآية الأخرى {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} وباعتبار ما قدمنا من أن الموت عدم الحركة والحياة الحركة فهم الكافر قبل وجوده في الدنيا موت وفي الدنيا حياة، وفي القبر موت وبعد قيامه ودخوله جهنم حياة أخرى فقال: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} الآية. فتعرف من هنا ومما قدمنا لك أن الله عز وجل ذكر أن للدنيا حياة وللآخرة حياة فكيف يقر ويقول المخالف الملحد بحياة الدنيا وينكر حياة الآخرة التي هي أحيا من حياة الدنيا بصريح كلام رب العالمين وبيان سنة سيد الأولين ولا فاصل ولا فارق ولو لحظة بين الحياتين بل ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة أرقى منها متصلاً بها اتصال اليقظة بالنوم والجوع بالشبع والألم بالصحة، والفقر بالغنى والكفر بالإيمان، والليل بالنهار، فهل يا أخا العقل فاصل بينهما أو فتور؟ إن ربك القادر جل وعلا جعل الموجودات متصلة لا انفصال بينهما إلا في عقل المخالف ونظر أعمى البصيرة والله يهدي من يشاء إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
واعلم أن الموت والحياة ترق في الوجود بالدليل العقلي المستفاد من الدليل النقلي: الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فالعقلي هو اعتقاد أنه ما تعلقت قدرة الحق عز وجل بإيجاد موجود إلا ويترقى في الحياة أبداً لا يلحقه العدم بالمشاهدة والعيان وذلك في كل شيء بحسبه بمعنى أن ترقيه في الوجود بالانتقال من حالة إلى حالة أرقي منه. إذ الموجد جل وعلا ما أوجده إلا بمقتضى كماله، وكمالاته سبحانه وتعالى لا تتناهى إذ ما من كمال إلا وعند الله أكمل منه. وأيضاً أنه تعلقت صفته تعالي به وهي حي بالموجود ولو انعدم هذا الموجود لتعطلت الصفة التي هو أي الموجود بها حي، وصفات الله تعالى لا تتعطل.
وأما النقلي فقد قال تعالى بعد أن سمي الحياتين الدنيا والآخرة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وقال صلى الله عليه وسلم مفصلاً لتلك الحاتين بقوله الشريف (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولما كان حال الدنيا مبنياً على تفاوت ودرجات الموجودات فيها فقد قال تعالى في النبات {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل}.
وفي الجمادات قال تعالى {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} الآية. وقال تعالى في الدواب والهوام والحشرات والطيور والوحوش والأسماك أنهم كبني آدم في الأحوال الاجتماعية {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وفي بني آدم الذي هو محل نظر الحق عز وجل من هذا الخلق الذي خلق له تلك الأشياء جمعاء وغيرها لم يجعل واحداً منهم يماثل الآخر بل التفاوت في جميع أفراده بل ما اشتمل عليه الفرد من الجزيئات في عموم مركباته جل الصانع المبدع قال تعالى {ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات} وفيما فيه فخره في الدنيا وعزه وشرفه فيما بينهم قال تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وفيما فيه جاههم من حيث الغنى بالمال قال تعالى {ولقد فضلنا بعضكم على بعض في الرزق} وهذا في عموم أفراد بني آدم فقد جعل تعالى الفروق بينهم متباينة لا ينكرها إلا كل مكابر من الذين يقولون اعمل وأنت تكون مثله.
أما من هم أفضل بني آدم و هم أقسام ثلاثة أنبياء. فقد قال الله تعالى فيهم {و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض} و فيمن هم أفضل أفضلهم و هم الأنبياء و الرسل قال تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} و فيمن هم أفضل منهم أفضلهم و هم أولو العزم من الرسل ؟ قال تعالى {و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظ} و في الآية الثانية في بيان أولي العزم قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين} الآية.
فهذا حال أهل الدنيا الذي لم يجعل الحق عزوجل في فرد منه ما يماثل الآخر لأنه لا ضرورة إلى الثاني و قدرة الكبير المتعال صالحة للتنويع في الإبداع و الإيجاد فالمخالف لإجماع المسلمين يقول في الولي هو مخلوق مثلك. اعمل و أنت تكون مثله أو أحسن منه. فهو على قدم من قال أولاً للحق عزوجل {خلقتني من نار و خلقته من طين} بل تطاول و تعدى طوره بقوله {أنا خير منه} فتجد هذا المخالف لا يحيد عن قول داعيه الأول ليكون من حزبه. أو هو يقول بقول الطبيعيين و هم على مبدأ ابليس أيضاً إن الخلق مثل مصنع يصب و ينتج و المعروف في قولهم و ما يهلكنا إلا الدهر. مع أنه سبحانه و تعالى بين لعباده أن الحياة الدنيا على درجات و أنواع و أنه سبحانه و تعالى المبدع لكل شيء، قال تعالى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.}
و لما كانت الدنيا كذلك فقد جعل كل ما في الآخرة كالدنيا غير أنه أرقى و أرفع في كل أحوال الموجودات، قال تعالى {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيل} و خاصة من خلقت له هذه الموجودات و قد تكفلت السنة المطهرة ببيان ذلك في كل شيء بحسبه.
و أما صريح القرآن العزيز في بيان حال بني آدم بعد خروج أرواحهم من الحياة الدنيا و انتقالها إلى الآخرة في كل مؤمن و كافر بأن تكون حياته مستمرة لا يعتريها ضعف و لا انفعال فقد قال تعالى {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} هذا حال الكافرين و المنافقين و الضالين فحياتهم أرقى من الحياة الدنيا لشعورهم بالعذاب بكافة أنواعه و لا شك أنه أشد من آلام الدنيا و أهوالها و أما حال المؤمنين فقد قال تعالى فيهم {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.}
فبين عز من قائل أن الدخول ما بقيت الدنيا ليس دخولاً حقيقياً بل على الأبواب بما يشعر به بمآله كما قال تعالى { و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} و هذه الآية اغتر و ضل في فهم معناها الكثير من الضالين إذ يقولون بأن بين الحياتين الدنيا و الآخرة حياة برزخية و هم لا يفهمون معنى البرزخ و حقيقته هو الحائل بين الشيئين بقدرة ربه سبحانه إذ يقول تبارك و تعالى {مرج البحرين يلتقيان بينهم برزخ لا يبغيان} فظن هؤلاء أن البرزخ حياة بين الحياتين و هم مخطئون في عقيدتهم غافلون عن فهم ما جاء في الكتاب و السنة و فاتهم قوله تعالى {و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} فمن أين لهم القسم الثالث و هو الحياة البرزخية، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. و أما ما جاء في السنة من أن الموت ترق في الحياة فدليله ما ورد في الصحاح من أن النبي صلى الله عليه و سلم قال (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها أو أحد يحب الموت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه و سلم إن العبد إذا احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه في الحالة التي يغيب فيها عن الدنيا و ما فيها و من حوله و لا يرى إلا الملائكة. و رأى ما أعده الله له من النعيم المفيم رغب فيه فأحب لقاء الله فأحب الله لقائه و إن العبد إذا احتضر و رأى ما أعده الله من العذاب الأليم كره فيه فكرة لقاء الله فكره الله لقاءه.
و هذا معنى قولهم فيما قص الله تعالى لنا عنهم {و ما كنا نعمل من سوء} فترد عليهم الملائكة بقولهم {بلى إن الله عليم بما تعملون فادخلوا أبواب جهنم} و في الآية الأخرى {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} فصريح القرآن أن حياة بني آدم بعد مفارقة الدنيا أحيا من حياة الدنيا إذ في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال (إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة و العشاء فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة و إن كان من أهل النار فمن أهل النار) و لا يشعر بذلك و يدركه حقاً إلا من كان حياً و في الحديث ا لآخر ( إذا وضع أحدكم في قبره فيقال له انظر فينظر إلى النار فيقال هذا مقعدك في النار و قد أبدلك الله خيراً منه في الجنة فينظر إلى الجنة فيجد مكانه و يقال له هذا مكانك من الجنة) و في الحديث الآخر ( إذا وضع أحدكم في قبره فيأتيانه ملكان له فيقعدانه و يقولان ما علمك بهذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو محمد جاءنا بالبينات و الهدى فأجبناه و اتبعناه هو محمد ثلاثة و أما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته و يقال له لا دريت و لا تليت و يضرب بمقرعة من حديد لو ضرب بها الجبل لذاب) و في الآخر قوله صلى الله عليه وسلم (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا حجر و لا مدر و لا شيء إلا و يشهد له يوم القيامة) و من المعلوم أن الميت شيء و يشهد ضمن الشهداء و الشهادة لا تعقل إلا من حي فصريح القرآن و بيان السنة عليأن ميت الآدمي حي أحيا من حياة الدنيا وناهيك بحديث أهل القليب قليب بدر و هو بعد أن انتهت المعركة و قتل فيها سبعون من صناديد قريش و أسر مثلهم فجعل يمر صلى الله عليه وسلم على الصرعى و يقول لهم (يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أتناجي موتى يا
رسول الله؟) فقال: (ما أنت بأسمع منهم و لكن لا يجيبون) فهاهم الكفار يخاطبهم صلى الله عليه و سلم لعلمه بحياتهم أحيا من حياة الدنيا و ها هو حديث الصحاح (بينما نحن جلوس إذ سمعنا صوتاً بعد العصر في ضواحي المدينة فقلنا ما هذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يهود تعذب في قبرها) و في الحديث دلالة على جواز قراءة القرآن على القبور ووصول الثواب للميت أن الرسول صلى الله عليه و سلم (مر على قبرين فقال يعذبان و ما يعذبان في كبير) الحديث أليس كل ذلك من صريح القرآن و بيان السنة يكفيك دليلاً على أن حياة ميت الآدمي في قبره أحيا من حياة الدنيا و أرقى منها بصريح القرآن و بيان السنة و إذا كان هذا في الكافر أفلا يكون في المؤمن لمجرد الايمان أرقى؟ و في العبد الصالح أرقى منه؟ و في الولي أرقى منه؟ و في الشهيد أرقى و أرقى؟ و في الأنبياء و المرسلين أضعاف ذلك؟ خصوصاً و قد قال تعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} و لا تنس قوله تعالى { و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيل} حتى أن بعض المتحققين من خيرة العلماء العاملين الشارحين لبيان سنة سيد المرسلين عن قوله في الحديث السابق في سؤال الملكين للميت ( ما علمك بهذا الرجل؟ فينظر الميت فيجد أمامه صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم فالمؤمن من يراه كأنه معه بالأمس فيقول هو محمد) الحديث. و لذا أجمعوا على أن ما من ميت يموت مؤمناً كان أو كافراً أو منافقاً أو ضالاً إلا و تحضر له صورة من صور حضرته صلى الله عليه و سلم و قدرة الله تعالى صالحة لذلك و لعلك قد فهمت من حياة الآدميين أن أحيا حياة فيهم و أرقاها حياة الأنبياء و المرسلين فما بالك بحياة سيد العالمين.
أليست أعم و أشمل؟ و أوسع من حياة جميع الآدميين و لعله يقرب لك فهم الحديث الصحيح الذي أفرد به بعض أفاضل الأمة مؤلفاً خاصاً و هو قوله صلى الله عليه و سلم (حياتي خير لكم و مماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم بالغداة و العشي فما وجدت خيراً حمدت الله تعالى و ما وجدت بخلاف ذلك استغرت لكم.)
و يكفينا من تعليمه الشريف صلى الله عليه و سلم لزيارة الأموات بياناً على حياتهم، و علم الزائر بقوله (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) الحديث. ففي هذا أكبر الدلالة على حياتهم إذ لا يسلم صلى الله عليه و سلم على أموات، و لا يبين للأمة أن تسلم في أموات لا يحسون و لا يشعرون و لا يعرفون من المسلم عليهم، ففي الحديث المروي عن الترمذي ما يؤيد حديث الزيارة و حياة المزور إذ يقول صلى الله عليه و سلم (ما من عبد يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا و يسلم عليه فيرد عليه السلام و يعرفه) وناهيك بما رواه ابن سعد رضي الله عنه أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تزور النبي صلى الله عليه و سلم و أباها قبل أن يدفن معهما عمر رضي الله عنه غير مقنعة و لما دفن رضي الله عنه كانت تدخل عليهم زائرة مقنعة لأنه وجد مع أبيها و زوجها أجنبي، و لأي شيء يا أخا العقل كانت رضي الله عنها تتقنع بعد عمر ما ذاك إلا لأنها تعلم بحياتهم، و اعلم أن حياتهم عكس الدنيا مع ما هم فيه من النعيم أو الجحيم يدركون كل شيء الدنيا و الآخرة.
فحياة أهل القبور من بني آدم أحيا من حياة الدنيا بصريح القرآن و بيان السنة. و يعلمون بمن يدعو لهم أو عليهم و بمن هو راض أو ساخط عليهم، وهذا معنى أن حياة الآخرى أوسع و كل من مات من أهل الدنيا صار في الآخرى، و أما قولهم أن الحياة الآخرة بعد القيام من القبور فهذا كذبُ محضُ و افتراء على الله و رسوله في جميع ما بينه لعباده إذ من أكبر الدلائل على أن حياة الآخرة التي هي أكبر و أحيا من حياة الدنيا و مبدؤها بمفارقة حياة الدنيا قوله تعالى {و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون} فجميع عقلاء الأمة من المفسرين على أن المراد باليوم أي اليوم الذي تفارق فيه حياة الدنيا إذ لا يخفى أن هؤلاء لم ينظروا إلا إلى ما ظهر من الأحوال في نظرهم ومعقولهم وأما عقائدهم في الأموات كعقائد الكافرين.
إذ يقولون: عظام الميت فنيت و بليت و لا أثر لحياته فهو كقول الكافرين الذين عارضوا بيان الحق عزوجل في قولهم {أئذا كنا عظاماً و رفاتاً لمبعوثون} و قولهم {أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد} فحكى الحق عزوجل عنهم بقوله {أولئك الذين كفروا بربهم و أولئك الأغلال في أعناقهم و أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.}
فهم لم يفطنوا حتى و لا لقول أمثالهم الذين كانوا قبل الإسلام وهم يقولون شيئان لا يفنيان؟ المادة والروح فهذا هو الصواب بعينه وهو رأي لبعض الفلاسفة المتحققين في علومهم بعقولهم التي ميزوا بها بعض الموجودات عن بعض فهم أحسن من الخوارج عقيدة و إدراكاً و تمييزاً إذ عقلاء الأمة يقولون بمفارقة الروح للجسد في هذه الحياة الدنيا لا تفارقه مفارقة كلية بل تكون متصلة بمادته و جزئياته اتصال الشعاع بالمقابل له مع انكشاف ما هو عليه و لا حق به وقائم بذاته حتى يكون الواصل بالموصول على ما هو عليه حقيقة بينة.
فكل من تفرقت أجزاؤه و تباينت أوصاله و تباعدت ذراته لا بد من اتصال الشعاع الخاص به على كل تلك الأفراد و الجزئيات حتى ينطبق عليه بيان ادراكه بالنعيم أو العذاب، فيدخل في ذلك من تقطعت أجسامهم و تمزقت أشلاؤهم و أكلتهم السباع و الاسماك و الطيور، و من أبلتهم الأرض السبخة فمثلهم كمثل من حدث عنهم الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم في الحديث المروي عند أصحاب السنن و المسانيد (أن رجلاً ممن كان قبلكم أحضر بنيه عند وفاته و قال لهم: إذ أنا مت فاحضروا لي حطباً وأحرقوني حتى إذا امتحشت فانظروا يوم رحا فاذروني فيه ففعلوا به ذلك فقال الله تعالى له : لم فعلت هذا؟ قال حياء منك يا رب فقال الله عز و جل عبدي استحى مني فاستحييت منه فغفر الله له.)
و أما من يدفنون بكامل أجسامهم فهم على قسمين فمنهم محترم الذات و مكرك الخلقة فلا تمس الأرض أجسامهم و لو دفنوا في السبحة كما شوهد ذلك فهم في قبورهم كيوم دفنهم، و منهم غير ذلك و يدفنون في الارض الرملة الجافة فأجسامهم تيبس و تجف كالخشب و غيره فأمرهم واضح، اتصال شعاع الروح بهم اتصالا منحصراً و عليه يدركون النعيم و العذاب بالروح و الجسد معاً إذ لا قائل بتعذيب الروح دون الجسد ضرورة اعتراضها على خالقها لا أعضاء لي فعلت بها و لا على الجسد فقط ضرورة اعتراضه على خالقه لا حركة لي فتعين أن يكون العذاب و النعيم على الروح والجسد معاً لاتصالهما بالفعل اتصالاً مشتركاً مباشراً لما يستفاد من قول الله عز و جل في وصف أهل النعيم فلا يكون إلا بالإنسان الكامل بالروح و الجسد. و في أهل الجحيم كذلك قال تعالى: {إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله لهم عذاب جهنم} الآية. و قال تعالى: {إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزل} الآية بعد أن عرفت مما تقدم أن شيئان لا يفنيان أزيدك وضوحاً هو أن الله تعالى جعل في تركيب ابن آدم مدارك يدرك بها الخير و ضده و هي الحواس الخمس الباطنية التي مقرها الرأس و جعلها الصانع الحكيم سبحانه متصلة بالحواس الخمس الظاهرية التي هي البصر و السمع و الشم و الذوق و اللمس فالإنسان إذا نام يرى بهذه صديقاً له و يرى ما عليه من الثياب و يشم رائحة ما يطعمه و يسقيه و يرى كل أنواع الكرم له و هو لم يمش و لم يتحرك و لم يتكلم و لم يأكل بل أدرك كل ذلك بالروح بالحواس الخمس الباطنية المتصلة بالحواس الخمس الظاهرية فبانتباهه من النوم تحكيه الحواس الخمس الظاهرية رأى العين فالنعيم و الجحيم في القبر هكذ. لأن الروح لا تفارق الجسد أبدا و هي اتصالها بالحواس الخمس الباطنية مصداق قوله صلى الله عليه و سلم (إن الميت ليعلم بمن يغسله و من يكفنه و من يحمله و من يدليه في القبر) فالذي تأكله الأرض.
الروح متصلة بذرات رأسه ليشعر بالنعيم أو الجحيم و الله سبحانه و تعالى أعلم.