برهانيات كوم
الإمام أبو حنيفة النعمان رضي اللّه عنه
لمحة عن حياته
(80 - 150 هـ)
نسبه: هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي، عرف بالإمام الأعظم.
كان جده من أهل كابل قد أسر عند فتح بلاده ثم مُنّ عليه. وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه، بل كان حر النفس أصيلاً، ولم يكن نسبه الفارسي غاضاً من قدره في عصر يقدم شرف التقوى على شرف النسب. وكان العلم في عصره أكثره في الموالي، فكانوا الوسط العلمي للدولة الإسلامية بعد الصحابة ردحاً طويلاً من الزمن، فصدقت فيه نبوءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس)
طلبه للعلم
تثقف أبو حنيفة رضي اللّه عنه بالثقافة الإسلامية التي كانت في عصره، فقد حفظ القرآن على قراءة عاصم، ودرس الحديث، وعرف قدراً من النحو والأدب والشعر، كما درس علم الكلام وأصول الدين، وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري، وقد ذكر في اختياره للفقه قوله: كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة... ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به وقد اتجه أبو حنيفة رضي اللّه عنه إلى دراسة الفقه على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رضي اللّه عنه في الأربعين من عمره.
ومع ملازمة أبي حنيفة رضي اللّه عنه لشيخه حماد فقد كان كثير الرحلة إلى بيت اللّه الحرام حاجاً، يلتقي في مكة والمدينة بالفقهاء والمحدثين والعلماء، يروي عنهم الأحاديث ويذاكرهم الفقه ويدارسهم ما عندهم من طرائق.وكان يتتبع التابعين أينما وحيثما ثقفوا، وخصوصاً من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقد قال في ذلك: تلقيت فقه عمر وفقه عبد اللّه بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهموقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال بأمثالها بعقل قوي مستقيم ومنطق قويم، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي.
أخلاقه
كان أبو حنيفة رضي اللّه عنه بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة، صائماً بالنهار قائماً بالليل تالياً لكتاب اللّه، خاشعاً دائباً في طاعة اللّه، قام الليل ثلاثين سنة وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه.كان كثير البكاء يرحمه جيرانه لكثرة بكائه، كثير الحياء جم الأدب وخاصة مع شيوخه، باراً بوالديه يدعو لهما في كل صلاة ويتصدق عنهما.كان كثير الورع يقول: لو أن عبداً عبد اللّه تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم إنه لا يدري ما يدخل في بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه. ولذا كان شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، وقد تصدق ببضاعته كلها عندما باع شريكه ثوباً معيباً دون أن يظهر عيبه.كان عظيم الأمانة في معاملاته حتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، فكان مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم كما هو في الذروة بين العلماء. قال فيه معاصره مليح بن وكيع: كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان واللّه ـفي قلبه جليلاً كبيراً عظيماً، وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في اللّه لاحتمل.
ومن أخلاقه السماحة والجود، فقد كانت تجارته تدر عليه الدر الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير، وكان ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين اعترافاً بفضل اللّه عليه فيهم.
قال فيه الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال معروفاً بالأفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق، رهاباً من مال السلطان.كان رحمه اللّه واحد زمانه، لو انشقت عنه الأرض لانشقت عن جبل من الجبال في العلم والكرم والمواساة والورع والإيثار للّه تعالى.
وكان أبو حنيفة رضي اللّه عنه حريصاً على أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه كثير التطيب، حسن الهيئة يحث من يعرفه على العناية بملبسه وسائر مظهره مذكراً بحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)
محنته ووفاته
عاش أبو حنيفة رضي اللّه عنه عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات، فقد أدرك دولتي بني أمية والعباس، وكان موقفه واضحاً من كل ما يجري حوله، ولم يعرف عنه يوماً أنه خرج مع الخارجين أو ثار مع الثائرين... لكن لما طلب منه عمر بن هبيرة والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع فسجن وعذب ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (130 - 136) للّهجرة، فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي اللّه عنهما.ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة. واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي اللّه عنه، وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة - رضي اللّه عنه - ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب تحرجاً من الوقوع في الإثم لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله، وتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه فسجن وعذب ثم أخرج من السجن على أن يفتي فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه اللّه سنة (150) للّهجرة على أصح الأقوال. وقيل إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه اللّه.
وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها. وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً. وقد صلى المنصور نفسه عليه إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه وقال: من يعذرني منك حياً وميتاً؟ رحم اللّه الإمام ورضي اللّه عنه وأرضاه
كان جده من أهل كابل قد أسر عند فتح بلاده ثم مُنّ عليه. وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه، بل كان حر النفس أصيلاً، ولم يكن نسبه الفارسي غاضاً من قدره في عصر يقدم شرف التقوى على شرف النسب. وكان العلم في عصره أكثره في الموالي، فكانوا الوسط العلمي للدولة الإسلامية بعد الصحابة ردحاً طويلاً من الزمن، فصدقت فيه نبوءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس)
طلبه للعلم
تثقف أبو حنيفة رضي اللّه عنه بالثقافة الإسلامية التي كانت في عصره، فقد حفظ القرآن على قراءة عاصم، ودرس الحديث، وعرف قدراً من النحو والأدب والشعر، كما درس علم الكلام وأصول الدين، وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري، وقد ذكر في اختياره للفقه قوله: كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة... ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به وقد اتجه أبو حنيفة رضي اللّه عنه إلى دراسة الفقه على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رضي اللّه عنه في الأربعين من عمره.
ومع ملازمة أبي حنيفة رضي اللّه عنه لشيخه حماد فقد كان كثير الرحلة إلى بيت اللّه الحرام حاجاً، يلتقي في مكة والمدينة بالفقهاء والمحدثين والعلماء، يروي عنهم الأحاديث ويذاكرهم الفقه ويدارسهم ما عندهم من طرائق.وكان يتتبع التابعين أينما وحيثما ثقفوا، وخصوصاً من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقد قال في ذلك: تلقيت فقه عمر وفقه عبد اللّه بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهموقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال بأمثالها بعقل قوي مستقيم ومنطق قويم، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي.
أخلاقه
كان أبو حنيفة رضي اللّه عنه بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة، صائماً بالنهار قائماً بالليل تالياً لكتاب اللّه، خاشعاً دائباً في طاعة اللّه، قام الليل ثلاثين سنة وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه.كان كثير البكاء يرحمه جيرانه لكثرة بكائه، كثير الحياء جم الأدب وخاصة مع شيوخه، باراً بوالديه يدعو لهما في كل صلاة ويتصدق عنهما.كان كثير الورع يقول: لو أن عبداً عبد اللّه تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم إنه لا يدري ما يدخل في بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه. ولذا كان شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم، فإن ظن إثماً أو توهمه في مال خرج منه وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، وقد تصدق ببضاعته كلها عندما باع شريكه ثوباً معيباً دون أن يظهر عيبه.كان عظيم الأمانة في معاملاته حتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، فكان مثلاً كاملاً للتاجر المستقيم كما هو في الذروة بين العلماء. قال فيه معاصره مليح بن وكيع: كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان واللّه ـفي قلبه جليلاً كبيراً عظيماً، وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في اللّه لاحتمل.
ومن أخلاقه السماحة والجود، فقد كانت تجارته تدر عليه الدر الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير، وكان ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين اعترافاً بفضل اللّه عليه فيهم.
قال فيه الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال معروفاً بالأفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق، رهاباً من مال السلطان.كان رحمه اللّه واحد زمانه، لو انشقت عنه الأرض لانشقت عن جبل من الجبال في العلم والكرم والمواساة والورع والإيثار للّه تعالى.
وكان أبو حنيفة رضي اللّه عنه حريصاً على أن يكون مظهره كمخبره حسناً، فكان كثير العناية بثيابه كثير التطيب، حسن الهيئة يحث من يعرفه على العناية بملبسه وسائر مظهره مذكراً بحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)
محنته ووفاته
عاش أبو حنيفة رضي اللّه عنه عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات، فقد أدرك دولتي بني أمية والعباس، وكان موقفه واضحاً من كل ما يجري حوله، ولم يعرف عنه يوماً أنه خرج مع الخارجين أو ثار مع الثائرين... لكن لما طلب منه عمر بن هبيرة والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع فسجن وعذب ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (130 - 136) للّهجرة، فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي اللّه عنهما.ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة. واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي اللّه عنه، وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة - رضي اللّه عنه - ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب تحرجاً من الوقوع في الإثم لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله، وتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه فسجن وعذب ثم أخرج من السجن على أن يفتي فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه اللّه سنة (150) للّهجرة على أصح الأقوال. وقيل إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه اللّه.
وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها. وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً. وقد صلى المنصور نفسه عليه إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه وقال: من يعذرني منك حياً وميتاً؟ رحم اللّه الإمام ورضي اللّه عنه وأرضاه