خطبة مولانا الشيخ محمد فى عيد الفطرالمبارك 1434 هـ - 2013 م فى ألمانيــــــا
الخطبة الأولــــــــــى:-
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على سيدنا محمد وآله وسلم
الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر الله أكبرالله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
الحمد لله الذى سهل لعباده طرق العبادة ويسر، وتابع لهم مواسم الخيرات، لتزدان أوقاتهم بالطاعات وتعمر، فما انقضى شهر الصيام حتى حلت شهور حج بيت الله المطهر، نحمده على أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ونعمه التى لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد المتفرد بالخلق ولكل الأمر دبر، وكل شئ عنده بأجل مقدر، وأشهد أن سيدنا محمداًً عبده ورسوله أنصح من دعا إلى الله وبشر، وأفضل من تعبد لله وصلى وزكى، وصام وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما بدا الصباح وأنور، وسلم تسليماً دائما وأبدً إلى يوم المحشر.
أما بعد ..
فيا أحبة رسول الله ، يَا مَن صُمتُم وَقُمتُم وَزكَّيتُم وَأَعطَيتُم، ووَحَّدتُمُ اللهَ وَدَعَوتُمُوهُ، وَأَقبَلتُم عَلَيهِ فى رَمَضَانَ وَرَجَوتُمُوهُ، وَأَنتُم فى هَذَا البَلَدِ بِالعَدلِ تَنعَمُونَ، وَلِلخَيرَاتِ تَقطِفُونَ.
كلنا يعلم إِنَّ أَسَاسَ عِمَارَةِ الكَونِ الَّذِى قَامَت عَلَيهِ السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ، وَبِهِ يَصلُحُ العِبَادُ وَتَزدَهِرُ البِلادُ، وَمِن أَجلِهِ أَرسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنزَلَ الكُتُبَ، وَلِتَثبِيتِهِ أَمَدَّ سُبحَانَهُ النَّاسَ بِالقُوَّةِ، إِنَّهُ العَدلُ وَالقِسطُ، نَعَم، إِنَّهُ العَدلُ وَالقِسطُ، الَّذِى مَا فَرَّطَتِ الأُمَمُ اليَومَ فى ثَمِينٍ مِثلِهِ، وَلا فَقَدَتِ الدُّوَلُ عَظِيمًا أَعَزَّ مِنهُ وَلا أَغلَى، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَصَابَتهَا القَلاقِلُ وَالفِتَنُ، وَبُلِيَت بِالحُرُوبِ الطَّوِيلَةِ وَعَظِيمِ المِحَنِ، وَحَلَّ بها مَا حَلَّ مِن زَوَالٍ وَدَمَارٍ وَعَدَمِ قَرَارٍ، وَزَالَ عَنهَا مَا زَالَ مِن نِعَمٍ وَنَعِيمٍ، وَتَوَارَى عَنهَا مَا تَوَارَى مِن خَيرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ، قَالَ سُبحَانَهُ ﴿لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ[1]﴾ وَاللهُ سُبحَانَهُ هُوَ الحَكَمُ العَدلُ، أَمَرَ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ، وَنَهَى عَنِ الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ، وَحَرَّمَ الظُّلمَ عَلَى نَفسِهِ وَعَلَى عِبَادِه، قَالَ سُبحَانَهُ ﴿إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى القُربى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغى[2]﴾ وَقَالَ﴿إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ[3]﴾ وَقَالَ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ[4]﴾ وَقَالَ فى الحَدِيثِ القُدسِى الَّذِى رَوَاهُ مُسلِمٌ [يَا عِبَادِى، إِنِّى حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِى وَجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا] وَقَالَ e (اِتَّقُوا الظُّلمَ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ) أَخرَجَهُ مُسلِمٌ، وَكَمَا أَمَرَ تَعَالى بِالعَدلِ فى الأَحكَامِ وَالأَفعَالِ، فَقَد أَوجَبَهُ فى الأَقوَالِ فَقَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا[5]﴾ وَقَالَ سُبحَانَهُ ﴿وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا[6]﴾ بَل حَتَّى الإِصلاحُ أَوجَبَ اللهُ أَن يَكُونَ بِالقِسطِ وَالعَدلِ، بِلا جَورٍ عَلَى الظَّالِمِ وَلَو جَارَ، قَالَ سُبحَانَهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى[7]﴾ وَمَعَ كَونِ العَدلِ مَطلُوبًا مِن جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ بَعضِهِم، وَعَلَيهِ تَقُومُ حَيَاتُهُم وَتُبنى مَصَالِحُهُم، فَإِنَّهُ لا أَجمَلَ وَلا أَكمَلَ مِن عَدلِ الأَئِمَّةِ وَالوُلاةِ، إِذْ بِهِ يَتَنَزَّلُ فى البِلادِ الخَيرُ وَالبَرَكَةُ، وَتُبَثُّ فى قُلُوبِ العِبَادِ الطُمَأنِينَةُ، وَمِن ثَمَّ فَقَد كَانَ مِنَ السَّبعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فى ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ (إِمَامٌ عَادِلٌ) جَاءَ بِذَلِكَ الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيهِ، وَقَالَ (ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم: الإِمَامُ العَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفطِرَ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ) الحَدِيِثَ رَوَاهُ أَحمَدُ وَقَالَ (أَصحَابُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: إِمَامٌ مُقسِطٌ مُصَّدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ بِكُلِّ ذِى قُربى وَمُسلِمٍ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُصَّدِّقٌ) رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ، وَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّ العَدلُ فى الرَّعِيلِ الأَوَّلِ مِن أَئِمَّةِ المُسلِمِينَ، كَثُرَتِ الخَيرَاتُ إِذْ ذَاكَ وَتَنَزَّلَتِ البَرَكَاتُ، وَبَادَلَ المُسلِمُونَ وُلاتَهُم حُبًّا بِحُبٍّ وَنَصَحُوا لَهُم، وَأَعطَوهُم مَا لَهُم مِن حَقِّ السَّمَعِ وَالطَّاعَةِ وَدَافَعُوا عَنهُم، وَلَمَّا تَوَلَّتِ القُرُونُ الأُولى، كَانَتِ الدُّوَلُ مَعَ رَعَايَاهَا فى مَدٍّ وَجَزرٍ، وَاختَلَفَ الأُمَرَاءُ وَالوُلاةُ عَدلاً وَجَورًا، حَتَّى وَصَلَ النَّاسُ إِلى هَذَا العَصرِ الَّذِى اشتَدَّت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ، وَابتُعِدَ كَثِيرًا عَنِ الحُكمِ بما أَنزَلَهُ رَبُّ العَالَمِينَ، فَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ يَعِيشُونَ غُربَةً وَهُم فى أَوطَانِهِم وَبَينَ أَهلِيهِم وَإِخوَانِهِم، حُورِبُوا فى دِينِهِم، وَاستُبِيحَت حُرُمَاتُهُم، وَتُجُسِّسَ عَلَيهِم فى عِبَادَاتِهِم، وَرُوقِبَت حَرَكَاتُهُم وَسَكَنَاتُهُم، وَفُرِضَت عَلَيهِم عَادَاتُ الكُفَّارِ فَرضًا، وجُوِّعُوا وَاسَتُؤثِرَ بِالأَموَالِ دُونَهُم، وهُضِمت حُقُوقَهُم وَضُيِّقَ عَلَيهِم فى أَرزَاقِهِم، وَعَادَ المَظلُومُ يَصرُخُ فَلا يَجِدُ مُجِيبًا، وَصَارَ المَلهُوفُ يَستَغِيثُ فَلا يَلقَى مُغِيثًا، فَنَشَأَت فَجوَةٌ سَحِيقَةٌ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ، جَعَلَت تِلكَ الشُّعُوبَ تَتَحَوَّلُ بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا إِلى أُسُودٍ ثَائِرَةٍ وَوُحُوشٍ كَاسِرَةٍ، وَتَنقَلِبُ بُحُورًا مِنَ الغَضَبِ هَادِرَةً مَائِرَةً، فَتَرمِى حُكُومَاتِهَا بِحُمَمٍ مِن غَيظِهَا، وَتَصُبُّ عَلى رُؤَسَائِهَا جَامَّ غَضَبِهَا، فَسُبحَانَ مَن أَحيَا بِالعَدلِ القُلُوبَ وَأَنَارَ بِهِ الصُّدُورَ، فَانشَرَحَت لأَئِمَّةِ العَدلِ وَأَحَبَّتهُم، وَوَالَتهُم وَأَطَاعَتهُم وَدَعَت لَهُم، وَضَيَّقَ بِالظُّلمِ صُدُورَ المَظلُومِينَ وَقَسَّى بِهِ قُلُوبَهُم، فَلَعَنُوا وُلاةَ الجَورِ وَأَبغَضُوهُم وَقَاتَلُوهُم، وَصَدَقَ حَيثُ قَالَ (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم، وَتَلْعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم) الحَدِيثَ، رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ، وَقَالَ (إِنَّ اللهَ لَيُملِى لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ) ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِى ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ إِنَّهُ الظُّلمُ وَالطُّغيَانُ، يُهلِكُ الأُمَمَ فى الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ، وَإِنَّهُمُ الظَّالمُونَ، مُبغَضُونَ فى الأَرضِ وَالسَّمَاءِ، لا يُحِبُّهُمُ اللهُ وَلا يَهدِيهِم وَلا يُوَفِّقُهُم، قَالَ سُبحَانَهُ ﴿وَتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَوعِدًا[8]﴾.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لم نَزَلْ بخير مادمنا وَللهِ الحَمدُ نَتَفَيَّأُ ظِلَّ دَوحَةِ العَدلِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَاحذَرُوا الظُّلمَ بِجَمِيعِ أَنوَاعِهِ وَأَشكَالِهِ، وَكُونُوا أَشَدَّ حَذَرًا مِن أَكَبَرِهِ وَهُوَ الشِّركُ بِاللهِ، قَالَ تَعَالى ﴿إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ[9]﴾ ثُمَّ احذَرُوا بَعدُ مِن أَنوَاعٍ مِنَ الظُّلمِ، ذُكِرَت فى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالذَمِّ، مِن أَعظَمِهَا تَعَدِّى حُدُودِ اللهِ وَالتَجَرُّؤُ عَلَى مَعاصِيهِ وَالإِعرَاضُ عَن آيَاتِهِ، قَالَ تَعَالى ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ﴾ وَقَالَ قَالَ اللهُ تَعَالى [ثَلاثةٌ أَنَا خَصمُهُم يَومَ القِيَامَة ِوَذَكَرَ مِنهُم قَولَهُ: وَرَجُلٌ استَأجَرَ أَجِيرًا فَاستَوفى مِنهُ وَلم يُعطِهِ أَجرَهُ] رَوَاهُ البُخَارِىُّ.
وَمِنَ الظُّلمِ الاعتِدَاءُ عَلَى المُمتَلَكَاتِ العَامَّةِ وَالاستِئثَارُ بها أَو أَكلُهَا، قَالَ (مَنِ استَعمَلنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخيَطًا فَمَا فَوقَهُ، كَان غُلُولاً يَأتى بِهِ يَومَ القِيَامَةِ) رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَمِن الظُّلمِ التَّفرِقَةُ بَينَ الأَولادِ فى العَطِيَّةِ، أَو الجَورُ وَالحَيفُ فى الوَصِيَّةِ، أَو عَضلُ البَنَاتِ وَالمُتَاجَرَةُ بِمُهُورِهِنَّ، قَالَ (اِتَّقُوا اللهَ وَاعدِلُوا بَينَ أَولادِكُم) رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَقَالَ إِنِّى أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ (اليَتِيمِ وَالمَرأَةِ) رَوَاهُ أَحمَدُ.
أحباب رسول الله ..
عن سيدنا أبى هريرة عن النبى قال إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ومناد ينادى: يا باغى الخير أقبل ويا باغى الشر أقصر ولله عتقاء وذلك كل ليلة.
وما أن يأتى شهر رمضان حتى تخمد أنفاس أغلب الصائمين .. ويسيطر عليهم الوخم .. ويتكاسلون فى العمل .. وتظهر عليهم أعراض التوتر .. وتضيق مشاعرهم .. وكأنهم فى كرب كئيب .. لا يخرجهم منه سوى وقت الإفطار.
فهذا النوع من الصيام يسمى صيام الصابرين .. الذين يتعاملون مع تكليف فى قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ[10]﴾وكأنهم يسمعون قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ[11]﴾ فصيامهم كأنهم مجبرين عليه .. وكأنهم فى قرارة أنفسهم يتمنون أن يلغى الله تلك الفريضة الصعبة عليهم.
والنوع الثانى صيام الراضين .. وهم لا يتذمرون من الصيام .. ولكن .. لو خيروا بين بقائه وإلغائه لاختاروا إلغاءه والفرق بينهم وبين الصابرين هو أنهم لا يعلنون شكواهم من الصيام .. ويخفون تبرمهم منه، لأنهم لا يقدرون على كثرة العبادة مع الصيام.
أما النوع الثالث فهو صيام الشاكرين .. وهو فى قوله سبحانه تعالى ﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ أمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[10]﴾ وليس المقصود أننا نصوم كما كان يصوم من قبلنا .. ولكن .. المقصود أن الصوم فريضة لسنا أول من كتبت عليهم .. فمبدأ الصيام وهو الحرمان من شئ ما .. بغض النظر عن اختلاف القواعد والتوقيت.
وتضيف الآية ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ أى هناك توقيت محدد .. هو شهر رمضان .. لا يجوز تأجيله أو تقديمه، ويضيف سبحانه وتعالى ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ومعنى أن الله يتوجه بدعوة الصيام للذين آمنوا فإن من يستجيب لها عليه أن يشكر الله لأنه احتسبه من المؤمنين .. وعليه أن يشكره أيضا لأنه ليس مريضا كى يعفيه منه .. وهى شهادة على الصحة .. وعليه أن يشكره كذلك لأنه يقيم وسط أهله وناسه ومن يحب .. وليس على سفر .. بكل ما فى السفر من متاعب .. ومن ثم فإن كل لائق للصيام عليه أن يشكر الله لوصفه بالمؤمن ولتمتعه بنعم الله لا أن يتبرم من صيام الشهر، لذلك يقول سبحانه وتعالى ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وفى موضع أخر ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ومن الكلمة الأخيرة جاء وصف صيام الشاكرين.
الخطـــــبة الثـــــــانية:-
الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر والحمد لله العفو الرحيم، الله أكبر الله أكبر الجواد الكريم، سبقتْ رحمتُه غضبَه فرحم عبادَه، وقضى عفوه على عقوبته فرفع العذاب عنهم، الله أكبر الله أكبر والحمد لله رب العالمين، هو أهلُ الحمد، ويحبُّ الحمد، وفرض حمْدَه فى كلِّ ركعة نصلّيها، فله الحمد كالذى نقول وخيرًا مما نقول، نحمده على نعمة الإسلام، ونحمده على إدراك رمضان، ونحمده على الصيام والقيام، ونسأله القبولَ والثواب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عزيزٌ لا يضام، وجبار لا يرام، وقيوم لا ينام، له معاقد العز والكبرياء، ومجامع العظمة والإجلال، خلق ملائكةً لعبادته، فهم قُنُوتٌ رُكَّعٌ سُجَّدٌ لله تعالى مذ خُلقوا، فلما تجلى ربُّهم لهم ونظروا إليه، لهجوا يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فنتأسى بهم ونقول: سبحانك ربَّنا ما عبدْناك حقَّ عبادتك، ومهما اجتهدنا فلن نقوم بحقك علينا، ولن نكافئ نِعَمك فينا، اللهم فاقبل عملنا، واغفر زلَلَنا، وتجاوزْ عن جهلنا وخطئنا وغفلتنا، فلا قوة لنا إلا بك، ولا ملجأ لنا منك إلا إليك.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، له فى الموقف العظيم محامدَ لم تُفتح لأحدٍ قبله، فيسجد تحت العرش يحمد الله تعالى بها، ويشفع للناس، فيقبل الله تعالى فى ذلك الموقفِ شفاعتَه، ويقول سبحانه [يا محمد، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لك، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى صحابته الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان.
الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
الله أكبر، نصبتْ له أركان المؤمنين، الله أكبر، خشعتْ له قلوب المخبتين، الله أكبر، سحَّتْ له أعين المتقين، يرجون رحمته وثوابه، اللهم لا تُخيِّب رجاءَ الصائمين القائمين، ولا تُحبط عملهم، ولا تردَّ سعيهم، اللهم بلِّغهم أملهم، وأعطهم سؤلهم، وأفِضْ عليهم من خزائن جودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
يا أحباب آل بيت النبى ..
احمدوا الله ربَّكم، واشكروه على ما أعطاكم؛ فإنكم لو عدَدْتم ما تعلمون من نِعَمه عليكم لمضتْ أعمارُكم فى عدِّها ولن تحصوها، وما جهلتم من فضل الله تعالى ونعمه عليكم أكثرُ مما علمتم ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا[12]﴾ أنَّى لنا يا عباد الله شكر ربٍّ أوجدَنا ولم نكُ شيئًا؟ ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا[13﴾.
وهدانا لدينه ولولاه لما اهتدينا ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ[14]﴾.وخصَّنا بأحسن كتاب ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِىَ[15]﴾.
واصطفانا بحبيبه e ﴿قُل بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[16]﴾.واختار لنا أفضل شريعة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً[17]﴾.
وكتبَنا فى خير أمة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[18]﴾.
وكل عمل صالح عملناه فبهدايته وتوفيقه وإعانته، ثم يجزينا عليه أعظم الجزاء، وهو محض فضله علينا، لقد أنعم سبحانه علينا فى أنفسنا وأهلنا وأولادنا، وبيوتنا وبلادنا، وما من شأن إلا ونرى لله تعالى فيه علينا نعمًا وآلاء، وما جهلناه من نعمه علينا أكثرُ مما عرفناه؛ فلله الحمد بكل نعمةٍ أنعم بها علينا، لا نحصى ثناء عليه، كما أثنى هو على نفسه.الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
أيها الصائمون القائمون ..
إن كان الله تعالى قد أنعم عليكم، فهداكم لصيام رمضان وقيامه، ووفَّقكم سبحانه لصلاته ودعائه وتلاوة كتابه، والتقرُّب إليه بأنواع البرِّ والإحسان، فاشكروا الله تعالى على ذلك بقلوبكم وأقوالكم وأفعالكم، وواصلوا العهد بعد رمضان؛ فإن ربكم يُعبَد فى كل زمان.يا أهل رمضان، يا قرَّاء القرآن، يا أصحاب الليل والتهجد والدعاء، إياكم أن تتركوا لذَّةَ المناجاة بعد رمضان؛ فإن ربكم عز وجل يتودَّدُ إليكم فى كل آن، فتقرَّبوا إليه بصالح الأعمال، فلا غنى لكم عنه، ولا حاجة له إليكم، واعلموا أن الدنيا إلى زوال، ولا يبقى لكم إلا ما عملتم فيها ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الأَلْبَابِ[19﴾.
الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
لقد انتشر الظلمُ والبغى بين الناس، وأُكلت الحقوق، وضُيِّعت الأمانات، وجاهر الكثيرٌ بالمحرَّمات، وضيقوا سُبُلَ الحلال، وعمَّ الكسب الخبيث دورَ الاقتصاد والمال، وحُوربت شرائع الله تعالى فى أكثر البلدان، وإن بعض الذنوب لَموجبةٌ لأشد العقوبات، ولكنه سبحانه غفور حليم، فما نحن إلا عبيده، جعلنا الله محل رحمته.
أيها الأحباب ..
إن البشر الآن فى كل الدول والأمم يخشون أمرين عظيمين، ويحاذرون من آثارهما، ويراقبون نتائجَهما، يخافون على معايشهم من الأزمة المالية، ومن بوادر الكساد الاقتصادى الذى يلوح فى الأفق، ويخافون على آجالهم جراء وباءات وأمراض العصر التى انتشرت فى سائر الدول، وفتَكَت بمئات البشر.
إنهم فى ترقُّب لآثار هاتين النازلتين الكبيرتين، وحُقَّ لهم أن يخافوا؛ لتعلُّقهما بأرزاقهم وآجالهم، ولكن أهل الإيمان يسترشدون فيما يعرض لهم بهدى الكتاب والسنة، ويعلمون أن ما أصاب البشرَ فبسبب ذنوبهم، ولا يظلمهم الله تعالى شيئًا، وكما أنهم يؤمنون أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، فإنهم كذلك يوقنون أنه لا يُرفع إلا بتوبة.
إن أهل الإيمان هم المؤهلون لرفع العذاب عن البشرية جمعاء، بإيمانهم وتوبتهم ودعائهم، وقد رفع الله تعالى العذابَ عن كفار مكة بوجود مؤمنين مصلِّين قانتين داعين فى أوساطهم ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[20]﴾ وفى شأن الدعاء ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ[21]﴾ وفى شأن التوبة والاستغفار ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[22]﴾ فاحذروا غضب الجبار سبحانه ونقمته؛ فإن ربكم يستعتبكم فاعتبوه، ويستخرج دعاءكم وتضرُّعَكم فاضرعوا له، ولا تكونوا كالذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله سبحانه ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ[23]﴾.
ادرؤوا عذاب الله تعالى عنكم بالاستغفار، وارفعوه بالتوبة، وادفعوه بالدعاء؛ فإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، مع الأخذ بالأسباب المادية المشروعة؛ فإن كل ذلك بقدر الله تعالى وتحت قهره.
إن أهل الإيمان موقنون أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى لا يزيدها حرصُ حريص، ولا يُنقصها تفريطُ مفرِّط، وأن الحذر لا ينجِّى من القدر، اللهم فارزقنا الإيمانَ بقدرك، وارفع الغلاء والوباء عنا وعن المسلمين، واحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه يا رب العالمين.الله أكبر الله أكبر .. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
أيها المؤمنون..
ابتهجوا بعيدكم، فبرُّوا والديكم، وصِلُوا أرحامكم، وأحسنوا إلى جيرانكم، واحنوا على صغاركم، وأدْخِلوا السرور على أُسركم؛ فإن اليومَ يومُ عيد لهم، فإن العيد شعيرة من شعائر الله تعالى وإن الفرح مظهر من مظاهره، فافرحوا بنعمة الله تعالى عليكم، وهدايته لكم، وأظهِروا السرور والحبور بهذا اليوم العظيم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.وتذكَّروا فى عيدكم إخوانًا لكم جرتْ عليهم أقلامُ المقادير بما يَحُول بينهم وبين الفرح بالعيد: منهم الزمنى والمرضى، ومنهم المحاصرون والمسجونون والأسرى، ومنهم المشرَّدون واللاجئون، ومنهم أيامى ويتامى، فلا تنسوهم فى يوم فرحكم، أعينوهم فى نوائبهم، وشاركوهم همومهم، وخصُّوهم بدعائكم، وتصدَّقوا عليهم؛ فإن الله يجزى المتصدقين.
أعاده الله تعالى علينا وعليكم وعلى أمة الإسلام جمعاء باليُمْنِ والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[24]﴾.
وكُل عَام وأنتُم بخَير...