يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:
هل أبو طالب عم النبى توفى مسلما أم غير ذلك؟
هل أبو طالب عم النبى توفى مسلما أم غير ذلك؟
- من هم اهل السنة والجماعة على الحقيقة ؟
- هل يصبح الحكام المسلمين كفارا إن لم يطبقون شرع الله فى بلادهم؟
- تفسير قوله ( ليس كمثله شئ ) عند الصوفية هو حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
نقول وبالله التوفيق لقد تناول هذا الموضوع العديد من العلماء فمنهم من قال بإسلامه ومنهم من قال بغير ذلك ونظرا لأهمية الموضوع فقد اخترنا لتوضيح هذ الأمر الهام وحتى لاندع مجالا للشك والحيرة مقتطفات من كتاب لعالم جليل هو السيد الهاشمى السيد أحمد بن السيد زينى دحلان شيخ العلماء ببلد الله الحرام فقد الف كتابه الذى سماه "اسنى المطالب فى نجاة أبى طالب" وذلك بعد اطلاعه على كتاب السيد محمد بن رسول البرزنج المتوفى سنة الف ومائة وثلاثة أى منذ تسعمائة وعشرة سنة والذى أثبت فيه السيد البرزنجى نجاة أبى طالب وذلك باقامة الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة وأقوال العلماء فيقول السيد زينى دحلان أن كل من اطلع على هذه الأدلة بتأمل يحصل له يقين بأنه ناج مع بيان معان صحيحة للنصوص التى تقتضى خلاف ذلك حتى صارت جميع النصوص صريحة فى نجاته وسلك فى ذلك مسلكا ما سبقه اليه أحد بحيث ينقاد لأدلته كل من أنكر نجاته وجحد وأن كل دليل استدل به القائلون بعدم نجاته قد قلبه عليهم وجعله دليلا لنجاته.
وقد لخص السيد زينى دحلان فى كتابه "اسنى المطالب فى نجاة ابى طالب" ما أثبته السيد البرزنجى فى كتابه ليكون من عرفها هو الغالب فى كل محفل ثم زاد على ذلك كلاما يتعلق بهذا الموضوع من "المواهب اللدنيه" و"السيرة الحلبية" فكان كتابه كما قال جامعا وافيا بتحصيل المراد نافعا ان شاء الله كل من وقف عليه من العباد.
فيقول ان العلامة البرزنجى قد أثبت حصول الإيمان لأبى طالب بالحجج والبراهين وخرج ذلك على أرجح الأقوال عند المحققين؛ أما عن إثبات الإيمان فانه يتوقف على تعريفه للإيمان ومعناه الشرعى فيقول الإيمان شرعا هو التصديق القلبى بوحدانية الله تعالى ورسالة النبى والتصديق بكل ما جاء به عن الله تعالى.
اما الإسلام شرعا فهو الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية ويدل على هذا قوله (الإسلام علانية والإيمان فى القلب) فقد يجتمع الإسلام والإيمان فى من صدق بقلبه ونطق الشهادة بلسانه, وينفرد الإسلام عن الإيمان فى المنافق الذى ينطق بالشهادة وينقاد لاحكام الاسلام ظاهرا وهو بقلبه مكذب غير مصدق، فهذا منافق فى الدرك الاسفل من النار، يقول تبارك وتعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ النساء 145، وينفرد الإيمان عن الإسلام فى من يصدق بقلبه ولا ينطق بالشهادة عنادا ولا ينقاد لأفعال الإسلام الظاهرة الشرعية، وذلك مثل الكثير من علماء اليهود الذين عرفوا ان سيدنا محمد صادقا ولم ينطقوا بالشهادة ولم يتبعوه ولم ينقادوا اليه، ويقول المولى تبارك وتعالى عنهم ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ البقرة 146. فهؤلاء مؤمنون به فى الباطن مكذبون به فى الظاهر عنادا واستكبارا فلا ينفعهم الايمان الباطنى.
أما اذا كان يؤمن ويصدق باطنا ولم ينطق بالشهادة ولم ينقاد ولم يتبع لعذر وليس لعناد أو استكبار فان الإيمان الباطنى فى هذه الحالة ينفعه فى الدار الآخرة ولكنه فى الظاهر يعامل معاملة الكفار فيقال أنه كافر بحسب أحكام الدنيا والعذر الذى يمنعه من الانقياد والنطق بالشهادة فى الظاهر له أسباب منها الخوف من ظالم إن أظهر إسلامه أن يقتله أو يؤذيه أذاً لا يُحتمل أو يؤذى أحدا من أولاده أو أقاربه فهذا يجوز له اخفاء إسلامه بل لو أكرهه ظالم على التلفظ بالكفر فانه يجوز له أن يتلفظ به، وقد أشار المولى تبارك وتعالى الى هذا بقوله ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ النحل 106.
ومن هذا القبيل فإن امتناع أبى طالب من الانقياد فى الظاهر كان خوفا على ابن أخيه وهو سيدنا محمد فانه كان يحميه وينصره ويدفع عنه كل أذى ليبلغ رسالة ربه وكان كفار قريش يمتنعون من ايذاء النبى رعاية لأبى طالب ولحمايته، وكانت رياسة قريش بعد عبد المطلب لأبى طالب فكان أمره عليهم نافذا وحمايته عندهم مقبولة لعلمهم أن أبا طالب على ملتهم ودينهم، ولو علموا أنه أسلم واتبع النبى فانهم لا يقبلون حمايته ونصرته، بل كانوا يقاتلونه ويؤذونه أكثر مما يفعلونه مع النبى ، ولا شك أن هذا عذر قوى لأبى طالب يمنعه من إظهار إسلامه والانقياد للنبى واتباعه، فلهذا كان يظهر لهم أنه على دينهم وملتهم وانه إنما يدافع عن النبى لأجل القرابة التى بينه وبين النبى ، وكانو يعتقدون أنه يحميه وينصره للحماية لا للاتباع فى الدين بل للحمية التى كانت مشهورة بين العرب وقد كان فى الباطن قلبه مملوءا بتصديقه لما شاهده من معجزات وكما سيأتى إيضاحه بعد وكان يأتى بألفاظ فى الظاهر تدل على ذلك أى على ايمانه بالنبى .
نأتى بعد ذلك الى اختلاف العلماء فى النطق بالشهادة:
فهل هو شرط اى جزء من مسمى الايمان أو شرط لاجراء الاحكام الدنيوية؟
فان كان شرطا اى جزءا فان تاركه مع القدرة اى تارك النطق بالشهادة مع القدرة يكون كافرا مخلدا فى النار
اما إن كان شرطا لإجراء الأحكام الدنيوية فتاركه لا يكون مخلدا فى النار.
يقول السفاقسى: كون الإيمان هو التصديق فقط هو الرواية الصحيحة عن الإمام أبى حنيفة .
وقول العلامة العينى فى شرح البخارى: ان الإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام أما من صدق الرسول فى جميع ما جاء به فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه.
وقال حافظ الدين النسفى: إن ذلك هو المروى عن أبى حنيفة والى ذلك ذهب الإمام أبو الحسن الأشعرى فى اصح الروايتين عنه وهو قول ابى منصور الماتريدى.
وقال الامام عضد الدين فى المواقف: الايمان عندنا هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، قال شارحه السيد الشريف يعنى بقوله عندنا الإمام أبى الحسن الأشعرى، وقد قرر الإمام الغزالى هذا المذهب فى كتابه إحياء علوم الدين.
وهو أيضا قول إمام الحرمين وقول الأشاعرة وقول القاضى الباقلانى والأستاذ أبى إسحاق الأسفراينى ونسب التفتزانى هذا الرأى الى جمهور المحققين واستدل عليه بأحاديث منها قول الحبيب (من علم ان الله ربه وانى نبيه صادقا عن قلبه حرم الله لحمه على النار) رواه الطبرانى الكبير عن عمران ابن حصين.
وروى البخارى ومسلم عن عثمان ابن عفان ان الرسول قال (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
ورى الطبرانى عن سلمة ابن نعيم الأشجعى قال قال رسول الله (من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنه) قال قلت: يا رسول الله وان زنى وان سرق. قال (وإن زنى وإن سرق).
ومن أحاديث الشفاعة الكثير من هذا حتى يقال له (اخرج من النار من فى قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان) بتكرار أدنى ثلاث مرات وذكر البرزنجى نفس الحديث بزيادة (لا يخلد فى النار).
وقال ابن حجر فى شرح الاربعين: إن شرط النجاة فى الآخرة إذا لم يطالب به أى النطق بالشهادتين. فإذا طولب به وامتنع عنادا وكراهية للإسلام اى امتنع امتناعا على وجه الإباء عن الإسلام والكراهية والعناد فلا ينجو, ويفهم من هذا أنه لو ترك النطق بعد المطالبة لا إباء عنه ولا عنادا بل لعذر صحيح وقلبه مطمئن بالإيمان فانه لا يكون كافرا فيما بينه وبين الله تعالى بل لو تكلم بالكفر فى هذه الحالة لا يضره، قال تعالى ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ النحل 106.
كما ان الراجح عند العلماء انه لا يشترط خصوص اللفظ المعروف "لا اله الا الله محمد رسول الله" وإنما ينعقد الإيمان بغير اللفظ المعروف. كأن يقول لا إله سوى الله أو لا إله إلا الرحمن أو قال محمد نبى الله أو مبعوثه أو أحمد أو الماحى أو غير ذلك مما يؤدى ذلك باللغات العجمية؛ صح إسلامه وحكم بكونه مسلما.
بعد ذلك نقول قد تواترت الاخبار أن أبا طالب كان يحب النبى ويحوطه بالرعاية وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويصدقه بل ويمدحه فى أشعاره وكان ينطق بأن دينه حق فمن كلامه المعروف:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
ومن شعره ايضا:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك فى الكتاب
نستكمل الموضوع عن إيمان سيدنا ابو طالب عم الحبيب المصطقى من كتاب اسنى المطالب فى نجاة أبى طالب للعالم الجليل السيد الهاشمى السيد أحمد بن السيد زينى دحلان شيخ العلماء ببلد الله الحرام وذلك بعد اطلاعه على كتاب السيد محمد بن رسول البرزنج و المتوفى سنة الف ومائة وثلاثة فنقول وبالله التوفيق:
ومن الأدلة التى تثبت إيمان أبى طالب أنه أوصى قريشا باتباع النبى وقال: والله لكأنى به وقد غلب ودانت له العرب والعجم فلا يسبقنكم إليه سائر العرب فيكونوا اسعد به منكم وقد تكررت منه هذه الوصية مرارا تارة يوصى بها بنى هاشم وتارة يوصى بها كافة قريش وقد أوصى قريشا عند قرب موته بوصية طويلة قال فيها:
يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وأنتم قلب العرب وفيكم السيد المطاع والمقدام الشجاع والواسع الباع واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة وعلى حربكم الرب وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البنية -يعنى الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثبتا للوطأة وصلوا أرحامكم ألا إن صلة الأرحام منسأة -أى فسحة- فى الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيها هلكت القرون قبلكم وأجيبوا داعى الله واعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وأوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش والصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وأنكره اللسان مخافة الشنآن وأيم الله كأنى أنظر إلى صعاليق العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفائها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها، يا معشر قريش كونوا له ولاه ولحزبه حماه والله لا يسلك أحد طريقه إلا رشد ولايأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهى. ا-هـ.
فهل هذا قول إلا مؤمن قوى الإيمان, فمن من المؤمنين قال مثل مقالته؟
يقول السيد زينى دحلان: فانظر واعتبر أيها الواقف على هذه الوصية كيف وقع جميع ما قاله أبو طالب بطريق الفراسة الصادقة الدالة على تصديقه النبى .
وقال لهم مرة: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا. ا-هـ.
فهل يقول هذه الكلمات إلا مؤمنا؟
وقد نوه أبو طالب بنبوة النبى قبل أن يبعث لأنه ذكر ذلك فى الخطبة التى خطب بها حين تزوج بخديجة فقال فى خطبته تلك:
الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم.
وكان هذا قبل بعثته بخمس عشرة سنة، فانظر كيف تفرس فيه أبو طالب كل خير قبل بعثته فكان الأمر كما قال، وذلك من أقوى الدلائل على إيمانه وتصديقه بالنبى حين بعثه الله تعالى.
وروى البخارى فى تاريخه عن عقيل بن أبى طالب : أن قريشا قالت لأبى طالب: إن ابن أخيك هذا قد آذانا، فقال للنبى : إن بنى عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم، فقال (لو وضعتم الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) ثم استعبر رسول الله باكيا، فقال أبو طالب: يا ابن أخى قل ما أحببت فوالله لا أسلمك لهم أبدا، وقال لقريش: والله ما كذب ابن أخى قط.
فانظر إلى نفى الكذب عنه بالحلف بحضور خصمائه، قريش وقد جاؤه يشكون إليه، وانظر إلى قوله (زعموا أنك تؤذيهم) حيث لم يطلق القول بأنه يؤذيهم بل جعل ذلك أذى باعتبار زعمهم، وأنهم يزعمون أنه من قبل نفسه وليس من عند الله، فقال إن كان أذى أى كما زعموا فانته عن آذاهم، فلما قال له إنه من عند الله بيقين كما أنكم على يقين من رؤية هذه الشمس صدقه ونفى عنه الكذب وقال والله ما كذب ابن أخى قط.
وأخرج الخطيب أيضا بسنده إلى أبى رافع مولى أم هانئ بنت أبى طالب أنه سمع أبا طالب يقول:
حدثنى محمدا ابن أخى أن الله أمره بصلة الأرحام وأن يعبد الله لا يعبد معه أحدا، قال ومحمد عندى الصدوق الأمين، وقال أيضا سمعت ابن أخى يقول (اشكر ترزق ولا تكفر تعذب).
وأخرج ابن سعد والخطيب وابن عساكر عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال:
كنت بذى المجاز مع ابن أخى فأدركنى العطش فشكوت إليه ولا أرى عنده شيئا، قال فثنى وركه ثم نزل فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال اشرب يا عم، فشربت. قال البرزنجى: فلو لم يكن موحدا لما رزقه الله الماء الذى نبع للنبى الذى هو أفضل من ماء الكوثر ومن ماء زمزم.
وقال البرزنجى: الذى يرى مثل هذه المعجزة كيف لا يقع التصديق فى قلبه وقد كثرت القرائن الدالة على التصديق.
وأخرج أبو نعيم من طريق أبى بكر بن عبد الله بن الجهم عن أبيه عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب إنه رأى فى منامه أن شجرة نبتت من ظهره قد نال رأسها السماء وضربت أغصانها المشرق والمغرب، قال وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين وهى تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، وقوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدى لأتناول نصيبا فلم أنل، فقلت لمن النصيب؟ فقال النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها، فانتبهت مذعورا فأتيت كاهنة لقريش فأخبرتها، فرأيت وجه الكاهنة فد تغير ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، فقال عبد المطلب لأبى طالب لعلك أن تكون هو المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبى قد بعث ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين. فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار. وإنما كان يقول ذلك تعمية وتسترا وإظهارا لقريش إنه على دينهم ليتم له نصرة النبى وحمايته، لأنهم حيث علموا أنه معهم وعلى دينهم يقبلون حمايته بخلاف ما لو أظهر لهم مخالفتهم واتباعه النبى ، فهذا هو العذر له فى قوله (السبة والعار) وفى بقائه ظاهرا على دينهم.
وأخرج ابن سعيد عن عبد الله بن ثعلب بن صغير العذرى إن أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا.
قال البرزنجى: قلت بعيد جدا أن يعرف أن الرشاد فى اتباعه ويأمر غيره ثم يتركه هو.
وروى الحافظ ابن حجر فى الإصابة عن على أنه لما أسلم قال له أبو طالب: الزم ابن عمك.
وعندما نقول الحافظ فهذا لقب يصفه العلماء بأن الحد الأدنى لمن يحمل هذا اللقب بأنه: من حفظ مئة ألف حديث بأسانيدها ويكون ما يعرفه عن رواتها أكثر مما يجهله.
وأخرج أيضا عن عمران بن حصين إن أبا طالب قال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك، فصلى جعفر مع النبى كما صلى على .
قال البرزنجى: فلولا إنه مصدق بدينه لما رضى لابنيه أن يكونا معه وأن يصليا معه، بل ولا كان يأمرهما بالصلاة فإن عداوة الدين أشد العداوات
وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس قال: كان أبو طالب يحب النبى حباً شديداً لا يحب أولاده مثله ولذا ألا ينام إلا جنبه ويخرجه معه حين يخرج، وكان النبى يحب أيضا أبا طالب حباً شديداً، ألا يأوى إلا إليه ولا يطمئن قلبه إلا باتصاله به، وكان يقول لما مات أبو طالب (نالت قريش منى من الأذى ما لم تكن تطمع فيه حياة أبى طالب).
قال رسول الله أيضا ﴿ما نالت قريش منى شيئا أكره حتى مات أبو طالب﴾ ولما رأى قريشا تهجموا على أذيته قال ﴿يا عم ما أسرع ما وجدت بعدك﴾ ومات أبو طالب وخديجة فى عام واحد فكان رسول الله يسمى ذلك العام عام الحزن.
وكان لما ظهر أمر النبى وصار يدخل فى دينه كثير من الناس، اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لبنى هاشم خذوا هذه دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحوا أنفسكم فأبى بنو هاشم، فعند ذلك اجتمع رأى قريش على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب وإخراجهم إلى شعب أبى طالب والتضييق عليهم بالمنع من حضور الأسواق، وأن لا يناكحوهم وأن لا يقبلوا لهم صلحا أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة.
وقيل إن أبا طالب لما رأى اجتماع قريش على قتل النبى جمع بنى هاشم وبنى المطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله الشعب ويمنعوه، ففعلوا، ولم يتخلف عنهم إلا أبو لهب، فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم ولا يناكحوهم ولا يقبلوا لهم صلحا أبداً، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة.
ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين وأصابهم ضيق شديد حتى أكلوا ورق الشجر يتقوتون به، وكان أبو طالب فى تلك المدة يتحفظ غاية التحفظ على النبى حتى أنه إذا جاء الليل وأراد النبى أن ينام يفرش له فراشه فى الموضع الذى يعتاد أن ينام فيه فيضطجع فيه النبى ثم يقيمه عمه عن فراشه المعتاد ويأمر بعض بنيه أن ينام فى ذلك الموضع، ويفرش للنبى فى موضع آخر غير معتاد نومه فيدعه ينام فيه، كل ذلك مبالغة فى حفظه وحراسته، والذى كتب الصحيفة لقريش شلت يده، وأوحى الله تعالى للنبى أنه سبحانه وتعالى سلط الأرضة على صحيفتهم التى كتبوها وعلقوها فى الكعبة فأكلت ما فيها من عهد وميثاق وقطيعة رحم ولم يبق فى الصحيفة غير اسم الله ، فإنهم كانوا يكتبون باسمك اللهم، فأخبر النبى عمه أبا طالب بذلك، فخرج من الشعب حتى أتى المسجد، فاجتمع عليه قريش وظنوا أنه يريد أن يسلمهم النبى ليقتلوه، فقالوا له توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم، أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم، إن ابن أخى أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى بها كل ما ذكر به الله تعالى، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا -فى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم- وإن لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذى يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. فقالوا: قد رضينا بالذى تقول -وفى رواية أنصفتنا- فأخرجوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق ، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا -أى قال أكثرهم- هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وبعضهم ندم وقال: هذا بغى منا على إخواننا وظلم، فقال لهم أبو طالب بعد أن وجد الأمر كما أخبر : يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين إنكم أولى بالظلم والإساءة والقطيعة. ودخل أبو طالب ومن معه تحت أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشعب، وعند ذلك مشى طائفة منهم فى نقض الصحيفة وإبطال ذلك الحصار.
وكان عبد المطلب يكرم النبى ويعظمه وهو صغير ويقول إن لإبنى هذا لشأنا عظيماً، وقد سمع من الكهان والرهبان شيئا كثيرا فى شأن النبى قبل ولادته وبعدها، وكان عبد المطلب رئيس قريش معظما فيها وكانوا يفرشون له حول الكعبة فيجلس ويجتمع حوله رؤساء قريش ولا يستطيع أحد أن يجلس على فراشه ولا أن يطأه بقدمه، وكان النبى وهو صغير يزاحم الناس فيدخل حتى يجلس بجنب جده عبد المطلب وربما جاء قبل جده عبد المطلب فجلس على فراشه فإذا أراد أحد من أعمامه أن يمنعه، يزجره جده عبد المطلب ويقول: دعوه إن له لشأنا ثم يجلس على فراشه معه ويمسح ظهره ويسره ما يراه يصنع.
وتوفى عبد المطلب وعمر النبى ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبى طالب وكان شقيق أبيه عبد الله وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم.
وعن ابن عباس قال سمعت أبى العباس يقول كان لعبد المطلب مفرش فى الحجر يجلس عليه لا يجلس عليه غيره، وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون الفرش، فجاء رسول الله يوما وهو غلام فجلس على الفرش فجذبه رجل فبكى، فقال عبد المطلب: مال ابنى يبكى؟ قالوا: أراد أن يجلس على الفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابنى يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربى قبله ولا بعده. فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبد المطلب أو غاب. وفى رواية: دعوا ابنى أنه ليؤنس ملكا. وفى رواية: فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن.
شهد كل هذا سيدنا ابو طالب كما كان له الكثير من الأشعار فى النبى والتى تفيد بإيمانه ومنها:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده فى رحمة وفواضل
وهذان البيتان من قصيدة طويلة لأبى طالب قيل إنها ثمانون بيتا أفرد لها بعض العلماء شرحا مستقلا، وقيل أنها تزيد على مائة بيت قالها أبو طالب حين حصر قريش لهم فى الشعب، وأخبر قريشا أنه غير مسلم محمدا رسول الله لأحد أبدا حتى يهلك دونه، ومدحه فيها مدحا بليغا وأتى فيها بكلام صريح فى أنه مصدق بنبوته ومؤمن به، فمنها البيتان السابقان ومنها قوله:
لعمرى لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب المحب المواصل
وقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
فمن مثله فى الناس أى مؤمل إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عاقل غير طائش يوالى إلها ليس عنه بغافل
وأصبح فينا أحمد فى أرومة تقصر عنها سورة المتطاول
وجدت بنفس دونه وحميته ودافعت عنه بالطلى والكلاكل
وفى القصيدة أبيات كثيرة مثل هذه فى المعنى والبلاغة.
قال ابن كثير أن هذه القصيدة بليغة جدا لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه وهى أفحل من المعلقات السبع وأبلغ فى تأدية المعنى. اهـ. هذا هو أبو طالب عم النبى المؤمن المصدق الصادق.
وأخرج البيهقى عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى النبى وشكا الجدب والقحط وأنشد أبياتا، فقام رسول الله حتى صعد المنبر فرفع يديه إلى السماء ودعا، فما رد يديه حتى التقت السماء بأبرقها، ثم بعد ذلك جاؤا يضجون من كثرة المطر خوف الغرق، فقال (اللهم حوالينا ولا علينا) وضحك حتى بدت نواجذه ثم قال (لله در أبى طالب لو كان حيا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله)؟ فقال على و كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال (أجل).
فالكلام عن إيمان سيدنا ابو طالب فى هذا الكتاب كثير ويحتاج الى مقالات ومقالات ولكن نكتفى بهذ القدر ومن اراد الزيادة فليرجع الى اسنى المطالب للعالم الجليل زينى دحلان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والى اللقاء فى العدد القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد مقبول
وقد لخص السيد زينى دحلان فى كتابه "اسنى المطالب فى نجاة ابى طالب" ما أثبته السيد البرزنجى فى كتابه ليكون من عرفها هو الغالب فى كل محفل ثم زاد على ذلك كلاما يتعلق بهذا الموضوع من "المواهب اللدنيه" و"السيرة الحلبية" فكان كتابه كما قال جامعا وافيا بتحصيل المراد نافعا ان شاء الله كل من وقف عليه من العباد.
فيقول ان العلامة البرزنجى قد أثبت حصول الإيمان لأبى طالب بالحجج والبراهين وخرج ذلك على أرجح الأقوال عند المحققين؛ أما عن إثبات الإيمان فانه يتوقف على تعريفه للإيمان ومعناه الشرعى فيقول الإيمان شرعا هو التصديق القلبى بوحدانية الله تعالى ورسالة النبى والتصديق بكل ما جاء به عن الله تعالى.
اما الإسلام شرعا فهو الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية ويدل على هذا قوله (الإسلام علانية والإيمان فى القلب) فقد يجتمع الإسلام والإيمان فى من صدق بقلبه ونطق الشهادة بلسانه, وينفرد الإسلام عن الإيمان فى المنافق الذى ينطق بالشهادة وينقاد لاحكام الاسلام ظاهرا وهو بقلبه مكذب غير مصدق، فهذا منافق فى الدرك الاسفل من النار، يقول تبارك وتعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ النساء 145، وينفرد الإيمان عن الإسلام فى من يصدق بقلبه ولا ينطق بالشهادة عنادا ولا ينقاد لأفعال الإسلام الظاهرة الشرعية، وذلك مثل الكثير من علماء اليهود الذين عرفوا ان سيدنا محمد صادقا ولم ينطقوا بالشهادة ولم يتبعوه ولم ينقادوا اليه، ويقول المولى تبارك وتعالى عنهم ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ البقرة 146. فهؤلاء مؤمنون به فى الباطن مكذبون به فى الظاهر عنادا واستكبارا فلا ينفعهم الايمان الباطنى.
أما اذا كان يؤمن ويصدق باطنا ولم ينطق بالشهادة ولم ينقاد ولم يتبع لعذر وليس لعناد أو استكبار فان الإيمان الباطنى فى هذه الحالة ينفعه فى الدار الآخرة ولكنه فى الظاهر يعامل معاملة الكفار فيقال أنه كافر بحسب أحكام الدنيا والعذر الذى يمنعه من الانقياد والنطق بالشهادة فى الظاهر له أسباب منها الخوف من ظالم إن أظهر إسلامه أن يقتله أو يؤذيه أذاً لا يُحتمل أو يؤذى أحدا من أولاده أو أقاربه فهذا يجوز له اخفاء إسلامه بل لو أكرهه ظالم على التلفظ بالكفر فانه يجوز له أن يتلفظ به، وقد أشار المولى تبارك وتعالى الى هذا بقوله ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ النحل 106.
ومن هذا القبيل فإن امتناع أبى طالب من الانقياد فى الظاهر كان خوفا على ابن أخيه وهو سيدنا محمد فانه كان يحميه وينصره ويدفع عنه كل أذى ليبلغ رسالة ربه وكان كفار قريش يمتنعون من ايذاء النبى رعاية لأبى طالب ولحمايته، وكانت رياسة قريش بعد عبد المطلب لأبى طالب فكان أمره عليهم نافذا وحمايته عندهم مقبولة لعلمهم أن أبا طالب على ملتهم ودينهم، ولو علموا أنه أسلم واتبع النبى فانهم لا يقبلون حمايته ونصرته، بل كانوا يقاتلونه ويؤذونه أكثر مما يفعلونه مع النبى ، ولا شك أن هذا عذر قوى لأبى طالب يمنعه من إظهار إسلامه والانقياد للنبى واتباعه، فلهذا كان يظهر لهم أنه على دينهم وملتهم وانه إنما يدافع عن النبى لأجل القرابة التى بينه وبين النبى ، وكانو يعتقدون أنه يحميه وينصره للحماية لا للاتباع فى الدين بل للحمية التى كانت مشهورة بين العرب وقد كان فى الباطن قلبه مملوءا بتصديقه لما شاهده من معجزات وكما سيأتى إيضاحه بعد وكان يأتى بألفاظ فى الظاهر تدل على ذلك أى على ايمانه بالنبى .
نأتى بعد ذلك الى اختلاف العلماء فى النطق بالشهادة:
فهل هو شرط اى جزء من مسمى الايمان أو شرط لاجراء الاحكام الدنيوية؟
فان كان شرطا اى جزءا فان تاركه مع القدرة اى تارك النطق بالشهادة مع القدرة يكون كافرا مخلدا فى النار
اما إن كان شرطا لإجراء الأحكام الدنيوية فتاركه لا يكون مخلدا فى النار.
يقول السفاقسى: كون الإيمان هو التصديق فقط هو الرواية الصحيحة عن الإمام أبى حنيفة .
وقول العلامة العينى فى شرح البخارى: ان الإقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام أما من صدق الرسول فى جميع ما جاء به فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه.
وقال حافظ الدين النسفى: إن ذلك هو المروى عن أبى حنيفة والى ذلك ذهب الإمام أبو الحسن الأشعرى فى اصح الروايتين عنه وهو قول ابى منصور الماتريدى.
وقال الامام عضد الدين فى المواقف: الايمان عندنا هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، قال شارحه السيد الشريف يعنى بقوله عندنا الإمام أبى الحسن الأشعرى، وقد قرر الإمام الغزالى هذا المذهب فى كتابه إحياء علوم الدين.
وهو أيضا قول إمام الحرمين وقول الأشاعرة وقول القاضى الباقلانى والأستاذ أبى إسحاق الأسفراينى ونسب التفتزانى هذا الرأى الى جمهور المحققين واستدل عليه بأحاديث منها قول الحبيب (من علم ان الله ربه وانى نبيه صادقا عن قلبه حرم الله لحمه على النار) رواه الطبرانى الكبير عن عمران ابن حصين.
وروى البخارى ومسلم عن عثمان ابن عفان ان الرسول قال (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة).
ورى الطبرانى عن سلمة ابن نعيم الأشجعى قال قال رسول الله (من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنه) قال قلت: يا رسول الله وان زنى وان سرق. قال (وإن زنى وإن سرق).
ومن أحاديث الشفاعة الكثير من هذا حتى يقال له (اخرج من النار من فى قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان) بتكرار أدنى ثلاث مرات وذكر البرزنجى نفس الحديث بزيادة (لا يخلد فى النار).
وقال ابن حجر فى شرح الاربعين: إن شرط النجاة فى الآخرة إذا لم يطالب به أى النطق بالشهادتين. فإذا طولب به وامتنع عنادا وكراهية للإسلام اى امتنع امتناعا على وجه الإباء عن الإسلام والكراهية والعناد فلا ينجو, ويفهم من هذا أنه لو ترك النطق بعد المطالبة لا إباء عنه ولا عنادا بل لعذر صحيح وقلبه مطمئن بالإيمان فانه لا يكون كافرا فيما بينه وبين الله تعالى بل لو تكلم بالكفر فى هذه الحالة لا يضره، قال تعالى ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ النحل 106.
كما ان الراجح عند العلماء انه لا يشترط خصوص اللفظ المعروف "لا اله الا الله محمد رسول الله" وإنما ينعقد الإيمان بغير اللفظ المعروف. كأن يقول لا إله سوى الله أو لا إله إلا الرحمن أو قال محمد نبى الله أو مبعوثه أو أحمد أو الماحى أو غير ذلك مما يؤدى ذلك باللغات العجمية؛ صح إسلامه وحكم بكونه مسلما.
بعد ذلك نقول قد تواترت الاخبار أن أبا طالب كان يحب النبى ويحوطه بالرعاية وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويصدقه بل ويمدحه فى أشعاره وكان ينطق بأن دينه حق فمن كلامه المعروف:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
ومن شعره ايضا:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك فى الكتاب
نستكمل الموضوع عن إيمان سيدنا ابو طالب عم الحبيب المصطقى من كتاب اسنى المطالب فى نجاة أبى طالب للعالم الجليل السيد الهاشمى السيد أحمد بن السيد زينى دحلان شيخ العلماء ببلد الله الحرام وذلك بعد اطلاعه على كتاب السيد محمد بن رسول البرزنج و المتوفى سنة الف ومائة وثلاثة فنقول وبالله التوفيق:
ومن الأدلة التى تثبت إيمان أبى طالب أنه أوصى قريشا باتباع النبى وقال: والله لكأنى به وقد غلب ودانت له العرب والعجم فلا يسبقنكم إليه سائر العرب فيكونوا اسعد به منكم وقد تكررت منه هذه الوصية مرارا تارة يوصى بها بنى هاشم وتارة يوصى بها كافة قريش وقد أوصى قريشا عند قرب موته بوصية طويلة قال فيها:
يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وأنتم قلب العرب وفيكم السيد المطاع والمقدام الشجاع والواسع الباع واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة وعلى حربكم الرب وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البنية -يعنى الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثبتا للوطأة وصلوا أرحامكم ألا إن صلة الأرحام منسأة -أى فسحة- فى الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيها هلكت القرون قبلكم وأجيبوا داعى الله واعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وأوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش والصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وأنكره اللسان مخافة الشنآن وأيم الله كأنى أنظر إلى صعاليق العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفائها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها، يا معشر قريش كونوا له ولاه ولحزبه حماه والله لا يسلك أحد طريقه إلا رشد ولايأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهى. ا-هـ.
فهل هذا قول إلا مؤمن قوى الإيمان, فمن من المؤمنين قال مثل مقالته؟
يقول السيد زينى دحلان: فانظر واعتبر أيها الواقف على هذه الوصية كيف وقع جميع ما قاله أبو طالب بطريق الفراسة الصادقة الدالة على تصديقه النبى .
وقال لهم مرة: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا. ا-هـ.
فهل يقول هذه الكلمات إلا مؤمنا؟
وقد نوه أبو طالب بنبوة النبى قبل أن يبعث لأنه ذكر ذلك فى الخطبة التى خطب بها حين تزوج بخديجة فقال فى خطبته تلك:
الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم.
وكان هذا قبل بعثته بخمس عشرة سنة، فانظر كيف تفرس فيه أبو طالب كل خير قبل بعثته فكان الأمر كما قال، وذلك من أقوى الدلائل على إيمانه وتصديقه بالنبى حين بعثه الله تعالى.
وروى البخارى فى تاريخه عن عقيل بن أبى طالب : أن قريشا قالت لأبى طالب: إن ابن أخيك هذا قد آذانا، فقال للنبى : إن بنى عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم، فقال (لو وضعتم الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) ثم استعبر رسول الله باكيا، فقال أبو طالب: يا ابن أخى قل ما أحببت فوالله لا أسلمك لهم أبدا، وقال لقريش: والله ما كذب ابن أخى قط.
فانظر إلى نفى الكذب عنه بالحلف بحضور خصمائه، قريش وقد جاؤه يشكون إليه، وانظر إلى قوله (زعموا أنك تؤذيهم) حيث لم يطلق القول بأنه يؤذيهم بل جعل ذلك أذى باعتبار زعمهم، وأنهم يزعمون أنه من قبل نفسه وليس من عند الله، فقال إن كان أذى أى كما زعموا فانته عن آذاهم، فلما قال له إنه من عند الله بيقين كما أنكم على يقين من رؤية هذه الشمس صدقه ونفى عنه الكذب وقال والله ما كذب ابن أخى قط.
وأخرج الخطيب أيضا بسنده إلى أبى رافع مولى أم هانئ بنت أبى طالب أنه سمع أبا طالب يقول:
حدثنى محمدا ابن أخى أن الله أمره بصلة الأرحام وأن يعبد الله لا يعبد معه أحدا، قال ومحمد عندى الصدوق الأمين، وقال أيضا سمعت ابن أخى يقول (اشكر ترزق ولا تكفر تعذب).
وأخرج ابن سعد والخطيب وابن عساكر عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال:
كنت بذى المجاز مع ابن أخى فأدركنى العطش فشكوت إليه ولا أرى عنده شيئا، قال فثنى وركه ثم نزل فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال اشرب يا عم، فشربت. قال البرزنجى: فلو لم يكن موحدا لما رزقه الله الماء الذى نبع للنبى الذى هو أفضل من ماء الكوثر ومن ماء زمزم.
وقال البرزنجى: الذى يرى مثل هذه المعجزة كيف لا يقع التصديق فى قلبه وقد كثرت القرائن الدالة على التصديق.
وأخرج أبو نعيم من طريق أبى بكر بن عبد الله بن الجهم عن أبيه عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب إنه رأى فى منامه أن شجرة نبتت من ظهره قد نال رأسها السماء وضربت أغصانها المشرق والمغرب، قال وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين وهى تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، وقوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدى لأتناول نصيبا فلم أنل، فقلت لمن النصيب؟ فقال النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها، فانتبهت مذعورا فأتيت كاهنة لقريش فأخبرتها، فرأيت وجه الكاهنة فد تغير ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، فقال عبد المطلب لأبى طالب لعلك أن تكون هو المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبى قد بعث ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين. فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار. وإنما كان يقول ذلك تعمية وتسترا وإظهارا لقريش إنه على دينهم ليتم له نصرة النبى وحمايته، لأنهم حيث علموا أنه معهم وعلى دينهم يقبلون حمايته بخلاف ما لو أظهر لهم مخالفتهم واتباعه النبى ، فهذا هو العذر له فى قوله (السبة والعار) وفى بقائه ظاهرا على دينهم.
وأخرج ابن سعيد عن عبد الله بن ثعلب بن صغير العذرى إن أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا.
قال البرزنجى: قلت بعيد جدا أن يعرف أن الرشاد فى اتباعه ويأمر غيره ثم يتركه هو.
وروى الحافظ ابن حجر فى الإصابة عن على أنه لما أسلم قال له أبو طالب: الزم ابن عمك.
وعندما نقول الحافظ فهذا لقب يصفه العلماء بأن الحد الأدنى لمن يحمل هذا اللقب بأنه: من حفظ مئة ألف حديث بأسانيدها ويكون ما يعرفه عن رواتها أكثر مما يجهله.
وأخرج أيضا عن عمران بن حصين إن أبا طالب قال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك، فصلى جعفر مع النبى كما صلى على .
قال البرزنجى: فلولا إنه مصدق بدينه لما رضى لابنيه أن يكونا معه وأن يصليا معه، بل ولا كان يأمرهما بالصلاة فإن عداوة الدين أشد العداوات
وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس قال: كان أبو طالب يحب النبى حباً شديداً لا يحب أولاده مثله ولذا ألا ينام إلا جنبه ويخرجه معه حين يخرج، وكان النبى يحب أيضا أبا طالب حباً شديداً، ألا يأوى إلا إليه ولا يطمئن قلبه إلا باتصاله به، وكان يقول لما مات أبو طالب (نالت قريش منى من الأذى ما لم تكن تطمع فيه حياة أبى طالب).
قال رسول الله أيضا ﴿ما نالت قريش منى شيئا أكره حتى مات أبو طالب﴾ ولما رأى قريشا تهجموا على أذيته قال ﴿يا عم ما أسرع ما وجدت بعدك﴾ ومات أبو طالب وخديجة فى عام واحد فكان رسول الله يسمى ذلك العام عام الحزن.
وكان لما ظهر أمر النبى وصار يدخل فى دينه كثير من الناس، اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لبنى هاشم خذوا هذه دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحوا أنفسكم فأبى بنو هاشم، فعند ذلك اجتمع رأى قريش على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب وإخراجهم إلى شعب أبى طالب والتضييق عليهم بالمنع من حضور الأسواق، وأن لا يناكحوهم وأن لا يقبلوا لهم صلحا أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة.
وقيل إن أبا طالب لما رأى اجتماع قريش على قتل النبى جمع بنى هاشم وبنى المطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله الشعب ويمنعوه، ففعلوا، ولم يتخلف عنهم إلا أبو لهب، فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم ولا يناكحوهم ولا يقبلوا لهم صلحا أبداً، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة.
ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين وأصابهم ضيق شديد حتى أكلوا ورق الشجر يتقوتون به، وكان أبو طالب فى تلك المدة يتحفظ غاية التحفظ على النبى حتى أنه إذا جاء الليل وأراد النبى أن ينام يفرش له فراشه فى الموضع الذى يعتاد أن ينام فيه فيضطجع فيه النبى ثم يقيمه عمه عن فراشه المعتاد ويأمر بعض بنيه أن ينام فى ذلك الموضع، ويفرش للنبى فى موضع آخر غير معتاد نومه فيدعه ينام فيه، كل ذلك مبالغة فى حفظه وحراسته، والذى كتب الصحيفة لقريش شلت يده، وأوحى الله تعالى للنبى أنه سبحانه وتعالى سلط الأرضة على صحيفتهم التى كتبوها وعلقوها فى الكعبة فأكلت ما فيها من عهد وميثاق وقطيعة رحم ولم يبق فى الصحيفة غير اسم الله ، فإنهم كانوا يكتبون باسمك اللهم، فأخبر النبى عمه أبا طالب بذلك، فخرج من الشعب حتى أتى المسجد، فاجتمع عليه قريش وظنوا أنه يريد أن يسلمهم النبى ليقتلوه، فقالوا له توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم، أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم، إن ابن أخى أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى بها كل ما ذكر به الله تعالى، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا -فى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم- وإن لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذى يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. فقالوا: قد رضينا بالذى تقول -وفى رواية أنصفتنا- فأخرجوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق ، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا -أى قال أكثرهم- هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وبعضهم ندم وقال: هذا بغى منا على إخواننا وظلم، فقال لهم أبو طالب بعد أن وجد الأمر كما أخبر : يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين إنكم أولى بالظلم والإساءة والقطيعة. ودخل أبو طالب ومن معه تحت أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشعب، وعند ذلك مشى طائفة منهم فى نقض الصحيفة وإبطال ذلك الحصار.
وكان عبد المطلب يكرم النبى ويعظمه وهو صغير ويقول إن لإبنى هذا لشأنا عظيماً، وقد سمع من الكهان والرهبان شيئا كثيرا فى شأن النبى قبل ولادته وبعدها، وكان عبد المطلب رئيس قريش معظما فيها وكانوا يفرشون له حول الكعبة فيجلس ويجتمع حوله رؤساء قريش ولا يستطيع أحد أن يجلس على فراشه ولا أن يطأه بقدمه، وكان النبى وهو صغير يزاحم الناس فيدخل حتى يجلس بجنب جده عبد المطلب وربما جاء قبل جده عبد المطلب فجلس على فراشه فإذا أراد أحد من أعمامه أن يمنعه، يزجره جده عبد المطلب ويقول: دعوه إن له لشأنا ثم يجلس على فراشه معه ويمسح ظهره ويسره ما يراه يصنع.
وتوفى عبد المطلب وعمر النبى ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبى طالب وكان شقيق أبيه عبد الله وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم.
وعن ابن عباس قال سمعت أبى العباس يقول كان لعبد المطلب مفرش فى الحجر يجلس عليه لا يجلس عليه غيره، وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون الفرش، فجاء رسول الله يوما وهو غلام فجلس على الفرش فجذبه رجل فبكى، فقال عبد المطلب: مال ابنى يبكى؟ قالوا: أراد أن يجلس على الفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابنى يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربى قبله ولا بعده. فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبد المطلب أو غاب. وفى رواية: دعوا ابنى أنه ليؤنس ملكا. وفى رواية: فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن.
شهد كل هذا سيدنا ابو طالب كما كان له الكثير من الأشعار فى النبى والتى تفيد بإيمانه ومنها:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده فى رحمة وفواضل
وهذان البيتان من قصيدة طويلة لأبى طالب قيل إنها ثمانون بيتا أفرد لها بعض العلماء شرحا مستقلا، وقيل أنها تزيد على مائة بيت قالها أبو طالب حين حصر قريش لهم فى الشعب، وأخبر قريشا أنه غير مسلم محمدا رسول الله لأحد أبدا حتى يهلك دونه، ومدحه فيها مدحا بليغا وأتى فيها بكلام صريح فى أنه مصدق بنبوته ومؤمن به، فمنها البيتان السابقان ومنها قوله:
لعمرى لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب المحب المواصل
وقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
فمن مثله فى الناس أى مؤمل إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عاقل غير طائش يوالى إلها ليس عنه بغافل
وأصبح فينا أحمد فى أرومة تقصر عنها سورة المتطاول
وجدت بنفس دونه وحميته ودافعت عنه بالطلى والكلاكل
وفى القصيدة أبيات كثيرة مثل هذه فى المعنى والبلاغة.
قال ابن كثير أن هذه القصيدة بليغة جدا لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه وهى أفحل من المعلقات السبع وأبلغ فى تأدية المعنى. اهـ. هذا هو أبو طالب عم النبى المؤمن المصدق الصادق.
وأخرج البيهقى عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى النبى وشكا الجدب والقحط وأنشد أبياتا، فقام رسول الله حتى صعد المنبر فرفع يديه إلى السماء ودعا، فما رد يديه حتى التقت السماء بأبرقها، ثم بعد ذلك جاؤا يضجون من كثرة المطر خوف الغرق، فقال (اللهم حوالينا ولا علينا) وضحك حتى بدت نواجذه ثم قال (لله در أبى طالب لو كان حيا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله)؟ فقال على و كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال (أجل).
فالكلام عن إيمان سيدنا ابو طالب فى هذا الكتاب كثير ويحتاج الى مقالات ومقالات ولكن نكتفى بهذ القدر ومن اراد الزيادة فليرجع الى اسنى المطالب للعالم الجليل زينى دحلان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والى اللقاء فى العدد القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد مقبول
- هل طلب المدد والشفاعة فى الدنيا من النبى ضلال وشرك؟
- انواع القواطع والحجب عن الله وطرق التخلص منها والانتصار عليها
- شرح حديث الموبقات السبع وشرهم والنجاة منهم
تعليقات: 0
إرسال تعليق