برهانيات كوم / الطريقة البرهانية
نقول وبالله التوفيق :التدارس لغةً : يقال :" دَرَسَ الكتابَ يدرُسُه دَرْساً ودِرَاسةً " ، و" دارسه " أي تعلمه علماً ..ويقال :" دارستُ الكتب وتَدارَسْتُها وادَّراستُها " أي دَرَسْتُها .وفي الحديث { تَدَارَسُوا الْقُرْآن } أي اقرءوه وتَعَهَّدوه لِئلاّ تنسوه ، وأصل الدراسة : الرياضة والتعهد لِلشيء .وفي الحديث أيضا { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَه } .فالتدارس على وزن ( التفاعل ) ، وهو اندماج العناصر أو الأشياء مع بعضها لِتكون شيئاً واحداً تجتمع فيه خواصها جميعاً .فهو اصطلاحاً : يعني عكوف الفرد أو الجماعة على النَّصّ المحترَم عُرْفاً لِتأصيله وتفريعه وفهْمِه واعتصاره والاستفادة منه والنهج على ما استقام منه والانتهاء عمّا حذّر منه بحيث يجمع الشمل ويؤلف القلوب .فعكوف الفرد : لأن في الفرد العقل والقلب والروح ، وهي كلُّها آلات لِلأخذ والرد لِلوصول إلى غاية معتبَرة .وعكوف الجماعة : هو الأصل المبتغَى ؛ فيَدُ الله معها ، فتَحصل القدرة الإلهية وبلوغ المراد .والنَّصّ المحترَم عُرْفاً : يعني الذي احترمَتْه الأمة اعتباراً لِقائله ، فلا يصح تَدارُس قول عوامّ الأمة فضلاً عن البَشَر ؛ لأنه ليس بثابت ، فالقول الثابت مِثل القرآن والسُّنّة وكلام الصحابة والتابعين وصالحِي الأمة فضلاً عن الخلفاء الراشدين ومَن كان خليفةً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يوم الدين .وقول " لِتأصيله " : أي رَدّه إلى غيره مِن الثوابت ونسْبتُه إليها كرَدّ القرآن إلى القرآن والسُّنّة إلى القرآن وكلام العلماء والصالحين إلى الكتاب والسُّنَّة وإلى بعضها البعض .وقول " وتفريعه " : أي دراسة ما تَشَعَّبَ منه ؛ لِتمام استقصاء مَعانيه .وقول " وفهْمه " : أي بعْد التأصيل والتفريع المعتبَرين وسيلةً لِلتحصيل والاستيعاب .وقول " واعتصاره " : أي محاوَلة نيل التفصيل بعد الإجمال ، ثم تفصيل التفصيل كلمةً بعد كلمة على غِرار ما قال سيدي فخر الدين :مَنْ يَطْرُقِ الْكَلِمَاتِ يَسْأَلُ مَدَّنَا لاَ يَلْقَى إِلاَّ الرِّفْدَ وَهُوَ سَخَاءُوقوله :وَمَا تَخَلَّيْتُ مُعْتَصَراً فَذَا عَبَثٌ وَمَا عَنِ الْحِبِّ يَوْماً قَدْ تَخَلَّيْتُوقول " بحيث يجمع الشمل ويؤلف القلوب " : أي أنه بعْد هذا الجهد في البدايات لا يَكتمل البناء بل ولا يَقوم أصلاً إلا بحصول الغاية التي عبَّر عنها سيدي فخر الدين : ( فَإِنَّمَا جِئْتُهَا جَمْعاً لِفُرْقَتِكُمْ ) ، فعدَمُ حصول ذلك دليل على اغتيال القواطع لِمَا بُذِل مِن جهد وأسباب ، فعلى المريد محاسَبة نفْسِه ومراجَعتها .ولَمّا كان لِلتدارس هذه الأهمية في الدين كله حتى أَوصَى به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأَوصَى به وارثُه الإمام فخر الدين في غير موضع وَجَب على جموع المريدين فضلاً عن عاشقِي التدارس أن يُشمِّروا عن ساعد الجد له وتَحَرِّي قواعده ؛ لِلوصول إلى ما أراده شيخُنا لنا مِن الخير الجم الوفير ..ومِن حُسْن الطالع أن الشيخ قد أَمَدَّنا بهذه القواعد والأصول ، وهو ما نلتمسه فيما يلي إن شاء الله رب العالَمين ..فلِلتدارس مَصادر أو مَراجع ، ولِلتدارس آلات أو وسائل :فمصادرُه ـ كما قال أناس ـ هي : القرآن والسُّنَّة وعلوم الشيخ - رضي الله عنه - ثم علوم الصالحين سَلَفهم وخَلَفهم .وآلاته ووسائله وكيفياته وهيآته كثيرة ، نَذكرها تفصيلاً بفضل الله وعونه ومَدَدِه وتأييده ، ولكنّا نَذكر منها :* معرفة علوم القرآن وفنونه مِن أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمُحْكَم والمتشابه والمفصَّل .* معرفة علوم السُّنَّة والحديث مِن صحيح وحَسَن وضعيف ورواية وسَنَد ومتْن وإسناد وانقطاع واتصال وغير ذلك .* معرفة علوم اللغة وأسرارها وفقْهها وأصْلها وفرْعها وما دَخَل عليها ، ثم معرفة علوم قواعد النحو وأصوله .* معرفة علوم البلاغة مِن مَجاز أو بيان وبديع واستعارة وكناية وغيرها .* معرفة علوم الفقه وأصول الفقه التي لا غِنَى عنها لِمَن تَصَدَّرَ لإرشاد الخَلْق وتقريبهم إلى الله .ومِن الوسائل والكيفيات الظاهرة والباطنة :إحسان القصد والظن والوجهة – تقليب الطرف فيها – تقليب القلب – الغوص فيها – الصبر والمكابَدة والجَلَد في تحصيل علومها ومَعانيها – حصول الصفا – تهيئة القلب – اختيار أَحسَن الهيئات والجلسات – لزوم الأدب مع الإخوان والأقران والأضياف في المجلس – مخاطَبة الحضور على قدْر العقول ... وما إلى ذلك مما سنفصِّله لِتمام الفائدة إن شاء الله .ولِتمام ذلك كله لا بد مِن الخوض والدخول في ما يلزم مِن عقايد لِنوال القصد مِن علوم القصايد والكلام في ماهية النظم والنثر والشعر ونسبتها إلى العلوم ومكانها منها ، فنستفتح باسم الله متوسِّلين بشيخنا وجاهه وفضْلِه أن نَكون هادين مَهديين مهتدين لا ضالِّين ولا مُضِلِّين ولا مبتدِعِين ، إنه نِعْم المولى ونِعْم النصير .