برهانيات كوم / الطريقة البرهانية
عقايد في القصايد
ونعني بها : بعض العقايد التي ينبغي لِلمريد التحلي بها والتزود بأسرارها ؛ لِيتسنى له حسْن الإقبال على التدارس ، ومِن ثَمّ حسْن التلقي الذي قال فيه سيدي فخر الدين :حُسْنُ التَّلَقِّي مِنْ سِمَاتِ أَحِبَّتِي وَالْجَوْهَرُ الْمَكْنُونُ فِي إِلْهَامِي* ماهية الشِّعر والنظم :سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشِّعر فقال { قَوْلٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيح } .وقال - صلى الله عليه وسلم - لِشاعرِه حسّان بن ثابت - رضي الله عنه - { رُدَّ عَلَيْهِمْ يَا حَسَّانُ ؛ فَإِنَّكَ مُؤَيَّدٌ بِرُوحِ الْقُدُس } .واستأذَنه سيدنا حسّان - رضي الله عنه - في هجاء قريش ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - { فَكَيْفَ بِنَسَبِي } قال حسان : سَأَسُلُّكَ مِنْهُ كَمَا تُسَلَّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِين .وجِماع هذا كلّه قول الله تعالى { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُ نَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون } .فتَحصَّل مِن هذا كله تعيين أنواع :أ- الشِّعر بمعناه : وهو القول المنظوم على بحورٍ يَعرفها أهل هذا الفن مِن عَروض وقافية ..وينقسم استناداً إلى قائله إلى : مباح وممنوع ..فالمباح : ما نَطَق به المسلمون وغيرُهم مما يشمل نواحي الحياة التي تقوم بها .والممنوع : ما كان مخالِفاً لِلشرائع والقوانين والأعراف .ثم يتأكد مِن المباح ما نَطَق به خاصة المسلمين ، وهو :ب- النظم : وهو اصطلاح يطْلَق مجازاً على المباح مِن الشعر عند الناس جميعاً ، ولكن سيدي فخر الدين - رضي الله عنه - أَظهَرَ المكنون مِن ذلك بأن جَعَله خاصّاً بالصالحين ؛ بناءً على ما وَرَد مِن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تأييد شاعره حسان بن ثابت - رضي الله عنه - بروح القدس ، ذلك الروح الذي أيَّد الله به أَعظَمَ أنبياء بني إسرائيل المسيح عيسى بن مريم ، مما يُجَوِّز لأمثاله مِثل هذا التأييد فيَكون ذلك لِلخلفاء مِن أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين كلٌّ على قدْر نصيبه مِن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .ومِن هذا النظم كانت منحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لِسيدي فخر الدين - رضي الله عنه - حيث أَوضَحَ ذلك فقال في حق ( شراب الوصل ) :عَطِيَّةٌ مِنْ كَرِيمٍ عِنْدَمَا ظَفَرَتْ بِهِ السَّمَاءُ بِفَرْدِ الأَرْبَعِ الْحُرُمِوَمِنَّةٌ مِنْ سَخِيٍّ طَابَ مَانِحُهَا تَطِيبُ لِي وَالْمَثَانِي أُشْهِدَتْ نِعَمِي* أمثال القرآن :وإلى هذا النظم الذي اختَص به الله الصالحين - رضي الله عنهم - أشار سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله { أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَه } وفي رواية { وَمِثْلَيْهِ مَعَه } وفي رواية { وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ مَعَه } ، فما هذه الأمثال إلا ما فَتَح الله به على بعض خواصه مِن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إظهاراً لِفضل القرآن على أمة القرآن في سائر الأزمان ، وفي ذلك يقول سيدي فخر الدين - رضي الله عنه - :وَلَيْسَ مِنْ بَعْدِ مَا جِئْنَا بِهِ حِكَمٌ لِيَرْتَوِي حِبُّنَا مِنْ كَأْسِ حِكْمَتِنَا* نسبُ القصايد إلى القرآن :يقال : إنّ شرف المضاف مِن شرف المضاف إليه ، فإذا ثبتَت إضافة القصايد إلى القرآن العظيم فقد ثبت الشرف وتم المراد ، وهذا ـ والحمد لله ـ ثابت بنَصّ كلام سيدي فخر الدين حين قال :إِلَى الْقُرْآنِ رُدُّوا كُلَّ قَوْلٍ فَفِي الْقُرْآنِ تَخْلِيصُ الرِّقَابِوقوله - رضي الله عنه - :وَمَنْ يَنْسِبْ إِلَى الْقُرْآنِ عِلْمِي وَأَقْوَالِي يُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُوقوله - رضي الله عنه - :صُفَّتْ لَهَا الأَمْلاَكُ عِنْدَ نُزُولِهَا مَوْلُودَةٌ فِي مُحْكَمِ الآيَاتِوقوله - رضي الله عنه - :وَإِنِّيَ مِنْ آيِ الْقُرَانِ لَمُسْتَقِي وَإِنَّ صُوَاعَ الْمُصْطَفَى لَسِقَايَتِيوقوله - رضي الله عنه - :وَرَتِّلِ الآيَ فَالْقُرْآنُ مَلْجَأُنَا وَكُنْ عَنِ الزَّاعِمِينَ الدَّهْرَ مُشْتَغِلاَهذا .. والمشاهِد والقارئ المحقِّق المدقِّق لِهذا النظم الفريد في ( شراب الوصل ) لإمامنا فخر الدين لا بد وأن يجد سياقاً قرآنيّاً فريداً في مبناه جديداً في مَعناه يتألق جدةً كلما طرقتَ له باباً بحيث يدرِك أنه لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه ، وما ذلك إلا لنِسبته إلى القرآن .وانظر إلى بعض قوله - رضي الله عنه - حين قال في ( القمرية ) :
قُلْتُ يَا مَوْلاَيَ هَلْ مِنْ كَاظِمٍ ... كَأَمِينِي قَالَ كَلاَّ وَالْقَمَرْقُلْتُ يَا مَوْلاَيَ هَلْ مِنْ عَازِلٍ ... لأَمِينِي قَالَ ذِي إِحْدَى الْكُبَرْخَتَمَ اللَّهُ رَحِيقاً عِنْدَماَ ... شَرِبَتْهُ الرُّوحُ يَا نِعْمَ السَّكَرْلَوْ غُلِبْنَا لَدَعَوْنَا رَبَّنَا ... رَبَّنَا إِنَّا غُلِبْنَا فَانْتَصِرْآلُ بَيْتُ الْمُصْطَفَى أَهْلُ الْحِمَى ... لَوْ دَعَا الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرْوحين قال في ( النونية ) :وَسَمَتْ سَمَاءُ مُحَمَّدٍ فَوْقَ السَّمَا ... هُوَ فِي الْعُلَى وَالْوُضْعُ لِلْمِيزَانِفَالشَّمْسُ ذَاتٌ وَالْمُنِيرُ مُحَمَّدٌ ... وَالنَّجْمُ آلُ الْبَيْتِ فِي الْفُرْقَانِوَاللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ وَالْمَرْجَانُ مِنْ ... بِنْتِ الرَّسُولِ كِلاَهُمَا الْحَسَنَانِفَهُمَا عَطَاءُ الْمُصْطَفَى وَغِرَاسُهُ ... فَلْتَعْقِلُوا يَا أَيُّهَا الثَّقَلاَنِهذا وغيرُه كثير وكثير في كل بيت لِسيدي فخر الدين ، والعبرة بالبحث والتدقيق .* نسبُ القصايد لِلسُّنَّة :والمطلوب هنا الفهم والاعتقاد بأن الأمر كله واحد ، فالقرآن هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والسُّنَّة هي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقصايد هي عطية النبي - صلى الله عليه وسلم - لِسيدي فخر الدين عندما ظفرَت به روحه بفرْد الأربَع الحُرُم رجب ، فلا غرابة إذَنْ في أن تعتقد أيها الأخ الكريم أن القرآن والسُّنَّة هي الدر النفيس الذي مَنَّ الله به على الوجود في زمن ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعْد انتقاله جاء خلفاؤه لِيَنظموه ، فيخرج في كل حين بعضٌ مِن هذا الدر المنظوم على حسب القسمة النبوية ، حتى جاء سيدي فخر الدين فأُعطِي ما لم يعطَه أحد حتى قال :لَقَدْ أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ غَيْرِي مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنْ مَا اجْتَرَأْتُوقال :وَلِي نَظْمُ دُرٍّ وَالْجَوَاهِرُ مَنْطِقِي وَفِيهِنَّ لِلرَّاجِي النَّجَاةَ مَكَاسِبُفالعقيدة هنا هي التصديق بأنّ نصوص القرآن والسُّنّة وأمثالها إنما هي الدر المنثور والمنظوم على مَرّ السنين جيلاً بعد جيل ، يأتي بها الله لِهداية خَلقِه حتى تَقوم الساعة .وإذا تأملتَ وقارنتَ أبيات القصايد بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لَرأيتَ وفقهتَ كيف يَغرف صاحب القصايد مِن مشكاة النبوة الغرّاء مبيِّناً وموضِّحاً معاني الأحاديث النبوية الشريفة كما لم تقرأها مِن قبل ، وسيأتي بيان ذلك ، وإنما تَكلَّمْنا في هذه النقطة على ما يَخص العقيدة .* علاقة ( شراب الوصل ) بقصايد القوم :وَضَح سابقاً كيف أوتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن وعشرة أمثاله معه ، وعرفْنا كيف يَكون ذلك هو الدر المنظوم عطاءً مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِخلفائه مِن بعده ..وعليه يتضح قول سيدي فخر الدين :وَلَيْسَ فِينَا إِمَامٌ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ إِمَامُنَا الْمُصْطَفَى وَالصَّفْحُ شِيمَتُنَاولِله در الشيخ البوصيري إذ قال :وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِوربما أتى الرجل إلى سيدي فخر الدين فسأله عن التصوف فيرشده إلى كتاب ( الإنسان الكامل ) لِيقرأه ، فإذا أَتَى بعد ذلك كان هذا الكتاب وسيلةً لِفهْم ما يفيضه مولانا الشيخ - رضي الله عنه - على هذا الرجل ..وهذا يفسر قول سيدي فخر الدين ( وَانْحَرْ غَيْرَ كَلاَمِي تَظْفَرْ ) ، هذا الكلام الذي أخطأ الكثيرون فهْمَه عندما ظنوا المعنى إعراضهم عن كلام القوم وقصايدهم ، والحق أن النحر بعد أن تُصلِّي لِربك قربةً إلى ربك أو فديةً كما قال سيدي فخر الدين ( وَنَحْرِي فِدْيَةٌ ) لِلوصول أو لِورود حوض الشيخ - رضي الله عنه - فيتم المراد والظفر .والحق أن النحر كما وَرَد في القرآن الكريم بسورة الكوثر في قوله تعالى { فَصَلّ لِرَبِّكَ وَانْحَر } :{ فَصَلّ } : أي حَقِّق الوصل بي بواسطة كلامي أو شراب وصلي .{ لِرَبِّك } : اللام بمعنى لأجْل ، أي لأجْل رب الكاف أو الكمالات ، فيَحصل لك الوصل بالرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - .{ وَانْحَر } : أي غير كلامي كما ذكر - رضي الله عنه - ، أي اجعل كلام أكابر القوم فديةً وقُربةً لأجْل الوصول إلى بعض معاني كلامي ، فتَكون مِن أهل الظفر بورود حوضي كما وَرَد :فَحَوْضِيَ مَوْرُودٌ وَنَحْرِيَ فِدْيَةٌ وَشَانِئِيَ الْمَبْتُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِوهذا كله يتأكد بإنشاد سيدي فخر الدين لِكثير مِن قصايد القوم وذِكْرِه لها في دروسه واستدلالاته بها في علومه وأقواله ، ويتأكد بقول الوزير الصفي مولانا الشيخ محمد الشيخ إبراهيم رضي الله عنهما لَمّا سٌئِل عن إنشاد البعض لِقصايد القوم ، فرَدّ قائلاً بما يفيد أن مولانا الشيخ أَنشدَها ، ثم قال : هذا لا يعني عندنا أي إشكال .
ونعني بها : بعض العقايد التي ينبغي لِلمريد التحلي بها والتزود بأسرارها ؛ لِيتسنى له حسْن الإقبال على التدارس ، ومِن ثَمّ حسْن التلقي الذي قال فيه سيدي فخر الدين :حُسْنُ التَّلَقِّي مِنْ سِمَاتِ أَحِبَّتِي وَالْجَوْهَرُ الْمَكْنُونُ فِي إِلْهَامِي* ماهية الشِّعر والنظم :سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشِّعر فقال { قَوْلٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيح } .وقال - صلى الله عليه وسلم - لِشاعرِه حسّان بن ثابت - رضي الله عنه - { رُدَّ عَلَيْهِمْ يَا حَسَّانُ ؛ فَإِنَّكَ مُؤَيَّدٌ بِرُوحِ الْقُدُس } .واستأذَنه سيدنا حسّان - رضي الله عنه - في هجاء قريش ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - { فَكَيْفَ بِنَسَبِي } قال حسان : سَأَسُلُّكَ مِنْهُ كَمَا تُسَلَّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِين .وجِماع هذا كلّه قول الله تعالى { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُ نَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون } .فتَحصَّل مِن هذا كله تعيين أنواع :أ- الشِّعر بمعناه : وهو القول المنظوم على بحورٍ يَعرفها أهل هذا الفن مِن عَروض وقافية ..وينقسم استناداً إلى قائله إلى : مباح وممنوع ..فالمباح : ما نَطَق به المسلمون وغيرُهم مما يشمل نواحي الحياة التي تقوم بها .والممنوع : ما كان مخالِفاً لِلشرائع والقوانين والأعراف .ثم يتأكد مِن المباح ما نَطَق به خاصة المسلمين ، وهو :ب- النظم : وهو اصطلاح يطْلَق مجازاً على المباح مِن الشعر عند الناس جميعاً ، ولكن سيدي فخر الدين - رضي الله عنه - أَظهَرَ المكنون مِن ذلك بأن جَعَله خاصّاً بالصالحين ؛ بناءً على ما وَرَد مِن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تأييد شاعره حسان بن ثابت - رضي الله عنه - بروح القدس ، ذلك الروح الذي أيَّد الله به أَعظَمَ أنبياء بني إسرائيل المسيح عيسى بن مريم ، مما يُجَوِّز لأمثاله مِثل هذا التأييد فيَكون ذلك لِلخلفاء مِن أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين كلٌّ على قدْر نصيبه مِن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .ومِن هذا النظم كانت منحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لِسيدي فخر الدين - رضي الله عنه - حيث أَوضَحَ ذلك فقال في حق ( شراب الوصل ) :عَطِيَّةٌ مِنْ كَرِيمٍ عِنْدَمَا ظَفَرَتْ بِهِ السَّمَاءُ بِفَرْدِ الأَرْبَعِ الْحُرُمِوَمِنَّةٌ مِنْ سَخِيٍّ طَابَ مَانِحُهَا تَطِيبُ لِي وَالْمَثَانِي أُشْهِدَتْ نِعَمِي* أمثال القرآن :وإلى هذا النظم الذي اختَص به الله الصالحين - رضي الله عنهم - أشار سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله { أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَه } وفي رواية { وَمِثْلَيْهِ مَعَه } وفي رواية { وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ مَعَه } ، فما هذه الأمثال إلا ما فَتَح الله به على بعض خواصه مِن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إظهاراً لِفضل القرآن على أمة القرآن في سائر الأزمان ، وفي ذلك يقول سيدي فخر الدين - رضي الله عنه - :وَلَيْسَ مِنْ بَعْدِ مَا جِئْنَا بِهِ حِكَمٌ لِيَرْتَوِي حِبُّنَا مِنْ كَأْسِ حِكْمَتِنَا* نسبُ القصايد إلى القرآن :يقال : إنّ شرف المضاف مِن شرف المضاف إليه ، فإذا ثبتَت إضافة القصايد إلى القرآن العظيم فقد ثبت الشرف وتم المراد ، وهذا ـ والحمد لله ـ ثابت بنَصّ كلام سيدي فخر الدين حين قال :إِلَى الْقُرْآنِ رُدُّوا كُلَّ قَوْلٍ فَفِي الْقُرْآنِ تَخْلِيصُ الرِّقَابِوقوله - رضي الله عنه - :وَمَنْ يَنْسِبْ إِلَى الْقُرْآنِ عِلْمِي وَأَقْوَالِي يُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُوقوله - رضي الله عنه - :صُفَّتْ لَهَا الأَمْلاَكُ عِنْدَ نُزُولِهَا مَوْلُودَةٌ فِي مُحْكَمِ الآيَاتِوقوله - رضي الله عنه - :وَإِنِّيَ مِنْ آيِ الْقُرَانِ لَمُسْتَقِي وَإِنَّ صُوَاعَ الْمُصْطَفَى لَسِقَايَتِيوقوله - رضي الله عنه - :وَرَتِّلِ الآيَ فَالْقُرْآنُ مَلْجَأُنَا وَكُنْ عَنِ الزَّاعِمِينَ الدَّهْرَ مُشْتَغِلاَهذا .. والمشاهِد والقارئ المحقِّق المدقِّق لِهذا النظم الفريد في ( شراب الوصل ) لإمامنا فخر الدين لا بد وأن يجد سياقاً قرآنيّاً فريداً في مبناه جديداً في مَعناه يتألق جدةً كلما طرقتَ له باباً بحيث يدرِك أنه لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه ، وما ذلك إلا لنِسبته إلى القرآن .وانظر إلى بعض قوله - رضي الله عنه - حين قال في ( القمرية ) :
قُلْتُ يَا مَوْلاَيَ هَلْ مِنْ كَاظِمٍ ... كَأَمِينِي قَالَ كَلاَّ وَالْقَمَرْقُلْتُ يَا مَوْلاَيَ هَلْ مِنْ عَازِلٍ ... لأَمِينِي قَالَ ذِي إِحْدَى الْكُبَرْخَتَمَ اللَّهُ رَحِيقاً عِنْدَماَ ... شَرِبَتْهُ الرُّوحُ يَا نِعْمَ السَّكَرْلَوْ غُلِبْنَا لَدَعَوْنَا رَبَّنَا ... رَبَّنَا إِنَّا غُلِبْنَا فَانْتَصِرْآلُ بَيْتُ الْمُصْطَفَى أَهْلُ الْحِمَى ... لَوْ دَعَا الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرْوحين قال في ( النونية ) :وَسَمَتْ سَمَاءُ مُحَمَّدٍ فَوْقَ السَّمَا ... هُوَ فِي الْعُلَى وَالْوُضْعُ لِلْمِيزَانِفَالشَّمْسُ ذَاتٌ وَالْمُنِيرُ مُحَمَّدٌ ... وَالنَّجْمُ آلُ الْبَيْتِ فِي الْفُرْقَانِوَاللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ وَالْمَرْجَانُ مِنْ ... بِنْتِ الرَّسُولِ كِلاَهُمَا الْحَسَنَانِفَهُمَا عَطَاءُ الْمُصْطَفَى وَغِرَاسُهُ ... فَلْتَعْقِلُوا يَا أَيُّهَا الثَّقَلاَنِهذا وغيرُه كثير وكثير في كل بيت لِسيدي فخر الدين ، والعبرة بالبحث والتدقيق .* نسبُ القصايد لِلسُّنَّة :والمطلوب هنا الفهم والاعتقاد بأن الأمر كله واحد ، فالقرآن هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والسُّنَّة هي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقصايد هي عطية النبي - صلى الله عليه وسلم - لِسيدي فخر الدين عندما ظفرَت به روحه بفرْد الأربَع الحُرُم رجب ، فلا غرابة إذَنْ في أن تعتقد أيها الأخ الكريم أن القرآن والسُّنَّة هي الدر النفيس الذي مَنَّ الله به على الوجود في زمن ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعْد انتقاله جاء خلفاؤه لِيَنظموه ، فيخرج في كل حين بعضٌ مِن هذا الدر المنظوم على حسب القسمة النبوية ، حتى جاء سيدي فخر الدين فأُعطِي ما لم يعطَه أحد حتى قال :لَقَدْ أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ غَيْرِي مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنْ مَا اجْتَرَأْتُوقال :وَلِي نَظْمُ دُرٍّ وَالْجَوَاهِرُ مَنْطِقِي وَفِيهِنَّ لِلرَّاجِي النَّجَاةَ مَكَاسِبُفالعقيدة هنا هي التصديق بأنّ نصوص القرآن والسُّنّة وأمثالها إنما هي الدر المنثور والمنظوم على مَرّ السنين جيلاً بعد جيل ، يأتي بها الله لِهداية خَلقِه حتى تَقوم الساعة .وإذا تأملتَ وقارنتَ أبيات القصايد بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لَرأيتَ وفقهتَ كيف يَغرف صاحب القصايد مِن مشكاة النبوة الغرّاء مبيِّناً وموضِّحاً معاني الأحاديث النبوية الشريفة كما لم تقرأها مِن قبل ، وسيأتي بيان ذلك ، وإنما تَكلَّمْنا في هذه النقطة على ما يَخص العقيدة .* علاقة ( شراب الوصل ) بقصايد القوم :وَضَح سابقاً كيف أوتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن وعشرة أمثاله معه ، وعرفْنا كيف يَكون ذلك هو الدر المنظوم عطاءً مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِخلفائه مِن بعده ..وعليه يتضح قول سيدي فخر الدين :وَلَيْسَ فِينَا إِمَامٌ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ إِمَامُنَا الْمُصْطَفَى وَالصَّفْحُ شِيمَتُنَاولِله در الشيخ البوصيري إذ قال :وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِوربما أتى الرجل إلى سيدي فخر الدين فسأله عن التصوف فيرشده إلى كتاب ( الإنسان الكامل ) لِيقرأه ، فإذا أَتَى بعد ذلك كان هذا الكتاب وسيلةً لِفهْم ما يفيضه مولانا الشيخ - رضي الله عنه - على هذا الرجل ..وهذا يفسر قول سيدي فخر الدين ( وَانْحَرْ غَيْرَ كَلاَمِي تَظْفَرْ ) ، هذا الكلام الذي أخطأ الكثيرون فهْمَه عندما ظنوا المعنى إعراضهم عن كلام القوم وقصايدهم ، والحق أن النحر بعد أن تُصلِّي لِربك قربةً إلى ربك أو فديةً كما قال سيدي فخر الدين ( وَنَحْرِي فِدْيَةٌ ) لِلوصول أو لِورود حوض الشيخ - رضي الله عنه - فيتم المراد والظفر .والحق أن النحر كما وَرَد في القرآن الكريم بسورة الكوثر في قوله تعالى { فَصَلّ لِرَبِّكَ وَانْحَر } :{ فَصَلّ } : أي حَقِّق الوصل بي بواسطة كلامي أو شراب وصلي .{ لِرَبِّك } : اللام بمعنى لأجْل ، أي لأجْل رب الكاف أو الكمالات ، فيَحصل لك الوصل بالرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - .{ وَانْحَر } : أي غير كلامي كما ذكر - رضي الله عنه - ، أي اجعل كلام أكابر القوم فديةً وقُربةً لأجْل الوصول إلى بعض معاني كلامي ، فتَكون مِن أهل الظفر بورود حوضي كما وَرَد :فَحَوْضِيَ مَوْرُودٌ وَنَحْرِيَ فِدْيَةٌ وَشَانِئِيَ الْمَبْتُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِوهذا كله يتأكد بإنشاد سيدي فخر الدين لِكثير مِن قصايد القوم وذِكْرِه لها في دروسه واستدلالاته بها في علومه وأقواله ، ويتأكد بقول الوزير الصفي مولانا الشيخ محمد الشيخ إبراهيم رضي الله عنهما لَمّا سٌئِل عن إنشاد البعض لِقصايد القوم ، فرَدّ قائلاً بما يفيد أن مولانا الشيخ أَنشدَها ، ثم قال : هذا لا يعني عندنا أي إشكال .