برهانيات كوم
سيرة الزبير بن العوام
هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وعدد ما بينهما من الآباء سواء. وأمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي رضي الله تعالى عنها، فتجتمع مع ابنها وزوجها في قصي، وعدد ما بينها وبين زوجها من الآباء سواء. ولما ولدته أمه أطلقت عليه اسم وكنية أخيها الزبير بن عبد المطلب، وكان يُكنى بأبي الطاهر، وبقي معروفاً بتلك الكنية حتى ولد له ابنه عبد الله، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بالمدينة المنورة بأنوار النبي، فكان بعد ذلك يكنى بأبي عبد الله.
مولده ونشأته رضي الله عنه
ولد بمكة المكرمة، ونشأ بها في وسط متحضر متمدين، لأن مكة كما وصفها الله كانت أم القرى ومثابة للناس وأمنا، يفد إلى كعبتها كافة الشعوب على اختلافهم في اللغات وتفاوتهم في الأخلاق والعادات، فضلاً على أنها في وسط عربي متحضر كبني ثقيف بالطائف، وبني الأوس والخزرج بالمدينة، وبني غسان بالشام وكل هؤلاء وأمثالهم يؤمونها دائماً لأداء نسكهم، وعرض محاصيلهم وثمرات أفكارهم في سوق الأدب والتجارة. فنشأة الزبير في تلك البيئة أكسبته الأخلاق الفاضلة والعواطف النبيلة، إلى ما فيه من كرم الأرومة وشرف العشيرة وكمال الفروسية التي نالت إعجاب النبي وتقديره العالي، حتى قال له يوماً (فداك أبي وأمي).
حياته وصفته رضي الله عنه
كانت حياته في الإسلام كلها ممتلئة بعمل الخير، والجد والسهر على نصرة الدين وجماعته، وإعلاء كلمة الحق، فكم قاتل في الله وكم بارز وكم قارع، وكم خاطر بنفسه امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد نوَّه الله بشأنه فأنزل الملائكة يوم بدر على صفته. وهو أحد العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولم يتخلَّف قط عن مشهد من مشاهد الخير. أسلم وعمره إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقد نال شرف الهجرة مرتين: مرة إلى الحبشة ثم عاد منها إلى مكة وبقي بها، حتى هاجر إلى المدينة المنورة، وكان أسمر اللون، ربعة القامة، معتدل اللحم، خفيف اللحية.
شرفه ومنزلته في قومه
حدث ما شئت عن شرفه من ناحية أبيه وأمه. فأمه عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وخديجة خير أمهات المؤمنين عمته. هذا إلى ما ثبت في المراجع المعتبرة من كتب السير أن عمر بن الخطاب لما قتل استدعى ستة رجال من عظماء قومه وسرواتهم وهم الذين توفى النبي وهو راضٍ عنهم، فعهد إليهم بانتخاب أحدهم للخلافة، وأوصاهم أن لا يمضي اليوم الرابع إلا وعليهم أمير منهم، فكان الزبير أحد هؤلاء الزعماء الستة. وحدثنا البخاري في صحيحه قال: أصاب عثمان بن عفان رضي الله عنه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج، وأوصى فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف، قال: وقالوه ؟ قال: نعم، قال: ومن ؟ فسكت. قال: فلعلهم قالوا الزبير ؟ قال: نعم. قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت،وإن كان لأحبُّهم إلى رسول الله. وقد مدحه أمير الشعراء حسان بن ثابت الأنصاري ففضَّله على سائر الصحابة، فمن ذلك قوله:
أقام على عهد النبي وهديه حواريُّه والقول بالفعل يعدلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حسَّها بأبيض سباق إلى الموت يرفلُ
فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس له في الدهر قرن مماثلُ
كرمه ووفاؤه
روي أنه لما نزل قوله تعال في القرآن الكريم: {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} قال الزبير: يا رسول الله: وأي نعيم نسأل عنه وإنما هي الأسودان التمر والماء ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أما إنه سيكون). وقد حقق الله وعد نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فقد ثبت في كتب السير الصحيحة أنه كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم، فكان يتصدق بكل ما فضل عنه ولا يدخر منه شيئاً في بيته.
وروي عن هشام بن عروة أنه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من أصحاب النبي ، فكان الزبير ينفق على أولادهم من ماله الخاص ويحفظ عليهم مالهم.
و هذا منتهى الورع، لأن الورع هو ترك الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، فكيف بمن يترك المباحات خوف الوقوع في الشبهات؟ ومعلوم أن الزبير رضي الله عنه قد أحل الله له الانفاق على أولادهم من أموالهم ولكنه احتاط لنفسه فجعل بينه وبين الحرام حصنين: الشبهات، وبعض المباحات. ومع هذا السخاء النادر فقد مات عن ثروة عظيمة، قال ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد: أخذ عبد الله بن الزبير لولده الثلث من تركة أبيه بوصية منه ثم قسم الباقي. وكان للزبير أربعة نسوة فأصاب كل امرأة ربع الثمن ألف ألف ومائة ألف و لا غرابة في ذلك، فقد كانت أنصبة المجاهدين من الغنائم تكفي لتكوين أعظم ثروة لسادةٍ أمثالهم،فقد ذكر بدرالدين العيني على شرحه للبخاري أنه قد أصاب كل واحد من فرسان المجاهدين في واقعة اليرموك على عهد أبي بكر أربعة وعشرين ألف مثقال من الذهب ومثلها من الفضة، وهذه موقعة واحدة في خلافة أبي بكر ذات المدة القصيرة فكيف بالغنائم التي أخذوها أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما ؟ وقد أدرك الزبير زمن عمر وعثمان وصدراً من خلافة علي، رضي الله عنهم أجمعين.
فروسيته وشجاعته رضي الله عنه
هو أول من سلَّ سيفاً في الله عز وجل، وذلك أنه شاع بمكة أن النبي قد أخذه الكفار فأقبل الزبير عند ذلك يشق الناس بسيفه، وكان النبي حينئذٍ بأعلى مكة فلما رآه قال له: مالك يا زبير ؟ قال: يا رسول الله أُخبرت أنك أُخذت ! فعند ذلك صلى عليه النبي ودعا له ولسيفه
وحدثنا البخاري في صحيحه قال: قال النبي يوم الأحزاب:(من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير: أنا. فقال صلى الله عليه وسلَّم: إن لكل نبي حواريا وحواريّ الزبير).
وحدثنا البخاري أيضاً في صحيحه قال: قال عبد الله بن الزبير: (كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمرو بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين وثلاثا، فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف. فقال: أو هل رأيتني يا بني ؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم ؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي).
وناهيك بموقف واحد من مواقفه المشرفة صدَّ فيه وحده جيش الكفر: حدثنا البخاري في صحيحه قال: (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدَّ فنشدَّ معك ؟ فقال: إني إن شددتُ كذبتم. فقالوا:لا نفعل، فحمل عليهم الزبير حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد ثم رجع مقبلا، فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر. قال ابنه عروة: ( كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير).
زمن مفاخره أن عمر بن الخطاب قد عده بألف رجل في الجيش الذي أرسله إلى مصر مدداً لعمرو بن العاص حيث كتب إليه يقول: (إني قد أمددتك بأربعة آلاف على كل ألف رجل بمقام ألف)، وكان الزبير رضي الله عنه أحد القواد الأربعة، وكان جيش المسلمين إذ ذاك بجانب جبل المقطم، وجيش الروم داخل حصن منيع حوله خندق محكم الأبواب، فلما طال المقام وأبطأ الفتح وضع الزبير سلماً إلى جانب الحصن وصعد عليه وتبعه كثير من المسلمين، وكان ذلك ليلا، فلما صاروا داخله كبَّر الزبير وكبَّر من خلفه ووضعوا السيف في حُماته، وفر الباقون من أمامهم، وتمَّ لهم فتح الحصن على يد الزبير بعد أن مكثوا حوله سبعة أشهر تقريبا.
مقتله رضي الله عنه
روي أنه شهد وقعة الجمل مع عائشة أم المؤمنين مقاتلاً لعلي بن أبي طالب، فناداه علي على انفراد وقال له: أتذكر إذ كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليّ وضحك وضحكت، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، يعني كبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لتقاتلنه وأنت له ظالم ؟ فتذكر الزبير ذلك، فانصرف في الحال عن القتال ونزل بوادي السباع ليصلي. فجاءه عمرو بن جرموز المجاشعي فقتله غدرا، ثم جاء بسيفه إلى علي فاستأذن فلم يؤذن له. ولما تناول علي كرَّم الله وجهه سيف الزبير نظر إليه ملياً ثم قال: رحم الله الزبير لطالما فرّج به الكرب عن وجه النبي ثم قال بشِّروا ابن جرموز بالنار فاني سمعت النبي يقول: بشروا قاتل الزبير بالنار.
ولما مات رثته امرأته بقولها:
غدر بن جرموز بأشجع فارس يوم الهياج وكان غير معددِ
يا عرو لو نبّهته لوجدته لا طائشاً رعش الجنان ولا اليدِ
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلماً حلّت عليك عقوبة المتعمدِ
وقال جرير ينعى على القاتل جرمه:
إنى تذكِّرني الزبير حمامةٌ تدعو ببطن الواديين هديلا
قالت قريشُ ما أذلَّ مجاشعاً جارا وأكرم ذا القتيلَ قتيلا
لو كنت حراً يا ابن قيس مجاشع شيعت ضيفك فرسخاً أو مِيلا
وكان مقتله يوم الخميس لعشر مضت من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة، وعمره سبع وستون سنة رضوانُ الله عليه. وقبره ناحية البصرة بوادي السباع.