برهانيات كوم
الإمام علي كرَّم الله وجهه
سيد القوم باب مدينة العلم والعلوم، رأس المخاطبات ومستنبط الإشارات، راية المهتدين ووليُّ المتَّقين، وإمام العادلين أقدمهم إجابة وإيمانا، وأقومهم قضية وإيقانا، وأعظمهم حلماً وأوفرهم علما، صاحب القلب العقول واللسان السؤول، عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادعو لي سيد العرب) يعني علي بن أبي طالب فقالت عائشة: ألستَ سيِّد العرب؟ قال (أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب).
وهو أوَّل هاشميٍّ ولد من أبوين هاشميين أبوه عم النبي صلى الله عليه وسلم وناصره وحاميه حزن عليه رسول الله لشدَّة حبِّه له، وأمُّه فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها وهي التي ربَّت رسول الله وهي التي نزل رسول الله في قبرها ودعا لها بأن يقيها الله ضغطة القبر.
لم يجتمع لأيِّ واحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزايا ما اجتمع للإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه حتى أن الإمام ابن الأثير تحدَّث عن فضائل الصحابة ولما أتى لسيرة الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه قال: ولكثرة فضائله رأينا أن نفرد كتاباً لها، وكان من المصائب التي وقعت في مجتمع أهل السنة أن بعض الذين جعلوا أنفسهم أوصياء على عقائد الناس أهملوا سيرته في مناهجنا ووسائلنا الإعلامية، وهو أعظم الصحابة مزيَّة. إن سيرة الإمام علي تكاد تكون مهملة لأنهم يعتقدون أن الإمام علي كرَّم الله وجهه هو إمام الشيعة وأنهم إذا تحدَّثوا عن فضائله نصروا المذهب الشيعي
من أسمائه حيدرة وهو الذي قال:أنا الذي سمَّتني أمي حيدرةكليثِ غاباتٍ كريه المنظرةأكيلهم بالسيف كيل السندرة
وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عليَّاً بأبي تراب حين وجده نائماً هو وعمَّار بن ياسر وقد علق به التراب فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال: قم يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب.
ولد الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه في بيت الله الحرام لما دخلت السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها البيت لتطوف به فجاءها المخاض فولدته في البيت الحرام فما فتح عينه في الدنيا إلا في البيت المحرَّم المعظَّم إرهاصاً لما سيكون عليه حاله وما سيكون له من عظيم المنزلة عند الله ورسوله. قال العقَّاد: ولد عليٌّ في داخل الكعبة وكرَّم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنَّما كان ميلاده هناك إيذاناً بعهدٍ جديد للكعبة والعبادة فيها.
ثمَّ شاء له الله تعالى أن يكون ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذه رسول الله من والده أبي طالب ليُربِيَه فكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأنَّ قريشاً كان قد أصابه قحطٌ شديد، وكان أبو طالب رضي الله عنه كثير العيال فقال رسول الله لعمِّه العبَّاس:إنَّ أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدَّة فانطلق بنا فلنخفف من عياله،تأخذ واحداً وأنا واحدا فجاءا إليه فقالا: إنا نريد أن نخفِّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّاً فضمَّه إليه وأخذ العباس رضي الله تعالى عنه جعفراً فضمَّه إليه فلم يزل عليٌّ مع رسول الله. قال كَرَّم الله وجهه: ولقد علمتم مكانتي من رسول الله بالمنزلة الخصيصة والقرابة القريبة أخذني في حِجره وأنا وليد يكنفني في فراشه ويضمُّني إلى صدره ويُشمُّني عرفه ويُمسَّني جسده وكان يمضغ الشيء ثمَّ يُلقمنيه، ولقد كنتُ اتَّبعه اتَّباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور كلَّ سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولقد سمعتُ رنَّة الشيطان حين نزل عليه الوحيُ فقلت يا رسول الله ما هذه الرنَّة. فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنَّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنَّك لستَ بنبيٍّ ولكنَّك وزير وإنَّك لعلى خير. وفي خصائص العشرة للزمخشري (أنَّ النبيَّ ما شاء الله عزَّ وجلَّ. تولَّى تسميته بعلي وتغذيته أياما بريقه المبارك بمصِّه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنه أنها قالت: لمَّا ولدته سمَّاه عليَّاً وبصق في فيه، ثمَّ إنَّ ألقمه لسانه فما زال يمصُّه حتى نام، فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا ه محمداً فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله عزَّ وجلّ).
ولقد كنتُ معه صلى الله عليه وسلم لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له يا محمد إنَّك قد ادَّعيت عظيماً لم يدَّعه آباؤك ولا أحدٌ من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنَّك نبيٌّ ورسول وإن لم تفعل علمنا أنَّك ساحرٌ كذَّاب فقال صلى الله عليه وسلم: وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتَّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك فقال: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون وإني لأعلم أنَّكم لا تفيئون إلا إلى خير وإنَّ فيكم من يطرح في القليب ويحزِّب الأحزاب ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم يا أيَّتها الشجرة إن كنتِ تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسولُ الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بينَ يديَّ بإذن الله، فوالذي بعثه بالحقِّ انقلعت بعروقها وجاءت ولها دويٌّ شديد، وقصف كقصف أجنحة الطير، وقفت بين يدي رسول الله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه، فلمَّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوَّاً واستكبارا: مرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها فأمرها بذلك فأقبل عليه نصفها كأعجب إقبال وأشدِّه دويَّا فكادت تلتفُّ رسول الله، فقالوا كفراً وعتوَّا فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع، فقلت أنا، لا إله إلا الله أنا أوَّل مؤمنٍ بك يارسول الله وأوَّل من أقرَّ بأنَّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصدِّقاً بنبوَّتك، وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلُّهم بل ساحر كذَّاب عجيب السحر خفيفٌ فيه وهل يصدِّقك في أمرك إلا مثل هذا يَعنونني وإني لمن قومٍ لا تأخذُهم في الله لومةُ لائم.
وصفه كرَّم الله وجهه
جاء في الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البرِّ أنه كان ربعةً أميل إلى القصر، شديد السمرة، أصلع الرأس، ثقيل العينين في دعجٍ وسعة، حسن الوجه واضح البشاشة، أغيد كأنَّما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين، له مشاش عظام كمشاش السبع الضاري، لا يتبيَّن عضده من ساعده قد أدمج إدماجا، كبير البطن، يميل إلى السمنة من غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدَّقها، ضخم عضلة الذراع، شثن الكفَّين يتكمفَّأ في مشيته على نحوٍ يقارب مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقدامُ في الحرب يُقدِم مهرولاً لا يلوي على شيء.
فضله كرَّم الله وجهه
سبق إلى الإسلام وهو لم يبلغ الحلم وهو القائل:
سبقتكمو إلى الإسلام طرَّاً صغيراً ما بلغتُ أوانَ حلمي
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجَّار صاحب يس وعلي ابن أبي طالب وهو أفضلهم. وعن مجاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: ما أنزل الله آيةً فيها: يا أيها الذين آمنوا إلا وعليٌّ رأسها وأميرها.
جاء في صحيح ابن ماجة: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصدِّق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذَّاب، صلَّيت قبل الناس سبع سنين. وفي مسند الإمام أحمد أنَّ ابن مسعودٍ كان يقول: أوَّل شيءٍ علمته من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قدمتُ مكَّة مع عمومةٍ لي فأرشدنا إلى العبَّاس ابن عبد المطَّلب، فانتهينا إليه وهو جالسٌ إلى زمزم فجلسنا إلى جانبه، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجلٌ من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة له وفرةٌ جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف برَّاق الثنايا، أدعج العينين، كثُّ اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفَّين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام أمرد، حسن الوجه مراهقٌ أو محتلم، تقفوزه امرأةٌ قد سترت محاسنها فقصد الحجر واستلمه وفعل ذلك الغلام والمرأة وطافا معه، فقلنا يا أبا الفضل،؛ ما هذا الذي لم نكن نعرفه فيكم، أوَشيءٌ حدث؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله والغلام الذي معه علي بن أبي طالب والمرأة هي زوجته خديجة بنت خويلد، أما والله ما على وجه الأرض من أحدٍ نعلمه يعبد الله بهذا الدين غيرُ هؤلاء الثلاثة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عليُّ أخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي، وتخصم الناس بسبعٍ ولا يحاجُّك فيها أحدٌ من قريش، أنتَ أوَّلهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسويَّة وأعدلهم في الرعيَّة، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مرزية.، وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: يا عليُّ لك سبع خصال لا يحاجُّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة أنت أوَّل المؤمنين بالله إيمانا وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأرفهم بالرعية، وأقسمهم بالسوية، وأعلمهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية.وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرَّم الله وجهه: مرحباً بسيِّد المسلمين، وإمام المتَّقين. فقيل لعليٍّ: فأي شيءٍ كان من شكرك؟ قال: حمدت الله تعالى على ما آتاني، وأن يزيدني مما أعطاني. وعن أنس بن مالك: قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى إلى أبي برزة الأسلمي فقال له وأنا أسمع: إنَّ ربَّ العالمين عهد إليَّ عهداً في عليِّ بن أبي طالب؛ فقال: إنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونورُ جميع من أطاعني، يا أبا برزة علي بن أبي طالب أميني غداً في القيامة، وصاحبُ رايتي في القيامة على مفاتيح خزائن ربي.
وعن أبي برزة: إنَّ الله عهد إليَّ عهدا في علي فقلتُ ياربِّ بيِنه لي، فقال: إنَّ عليَّاً راية الهدى، وإمام أوليائي ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتَّقين، من أحبَّه أحبَّني، ومن أبغضه أبغضني، فبشِّره بذلك فبشَّرته، فقال لي: يا رسول الله أنا عبد الله وفي قبضته، فإن يعذِّبني فبذنبي، وإنْ يتمَّ الذي بشرتني به فالله أولى بي.
لعلي: يا علي إنَّ الله أمرني أن أدنيك وأعلِّمك لتعي.
وأنزلت هذه الآية {وتعيها أذن واعية} قيل هي أذن علي بن أبي طالب. وقال كرَّم الله وجهه:والله ما نزلت آيةٌ إلا وعلمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إنَّ ربي وهب لي قلباً عقولا، ولساناً سؤولا. وعن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: يا عليُّ إنَّ الله زيَّنك بزينة لم تزيَّن العباد بزينةٍ أحبَّ إلى الله تعالى منها، هي زينة الأبرار عند الله عزَّ وجل، الزهد في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا، ولا ترزأ الدنيا من شيئاً. نحن شجرة النبوَّة، ومحطُّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبُّنا ينتظر الرحمة، وعدوُّنا ومُبغضنا ينتظر السطوة. وقال: أنا وعلي كنَّا نورين بين يدي القديم الأزلي ننتقل من صلب طاهرٍ إلى رحم طيِّب حتى ظهرتُ في عبد الله وظهر في أبي طالب،وفي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوَّل هذه الأمَّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً علي بن أبي طالب، ولما استُشهد الإمام علي كرَّم الله وجهه قام ابنه الحسن بن علي رضي الله فقال: لقد فارقكم رجلٌ بالأمس لم يسبقه الأوَّلون ولم يدركه الآخرون بعلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه فيعطيه الراية فلا يرتدَّقال سيدي الشيخ فخر الدين رضي الله عنه:
وفقِّهتُ من أسرارِه ما لو يشا سبعينَ راحلةً بذاك لأوقرامن علمِه في علمِه وبعلمِه حزتُ الكمالَ ولم أزلْ مدَّثرا
فيه إشارة لكلام الإمام علي كرَّم الله وجهه وذلك أنَّ سيِّدنا ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما سأل الإمام عليَّاً عن تفسير سورة الفاتحة ففسَّرها له يوماً إلى الليل ثمَّ جاءه في اليوم الثاني ففسَّرها له أيضاً إلى الليل إلى أن أكمل ثلاثة أيام فتعجَّب ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما من كثرة علمه فقال له الإمام كرَّم الله وجهه: لو شئتَ لأوقرتُ لك منها سبعين بعيرا· وقال صلى الله عليه وسلم: قُسِّمت الحُكمُ (الحكمة) عشرة أجزاء فأُعطِيَ عليٌّ تسعةَ أجزاء والناس جزءاً واحدا) اشتهر الإمام علي كرَّم الله وجهه بالعلم حتى سأله الصحابة رضي الله عنهم: أخصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلمبشيء؟ قال: لا ولكن بفهمٍ أدقَّ في كتاب الله· وجاء في تفسير قوله تعالى {وتعيها أذنٌ واعية} أنها أذن الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه· وقد وردت الأمثلة كثيرة في هذا ومنه قول الإمام علي كرَّم الله وجهه في إحدى خطبه: أنزل عليكم أمانان وقد رُفع أحدهما وبقي الآخر، فأما الأمان الذي رُفع فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأمان الذي بقي فالاستغفار· ثمَّ تلا قوله تعالى {وما كان الله ليعذِّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون} وقد حدث في عهد الخليفة ذي النورين رضي الله عنه أن رجلا ادَّعى على امرأته أن حملها ليسَ منه لأنها ولدت لستة أشهر، فحُكم عليها بالرجم لأنها زانية فالمرأة لا تلد لستة أشهر، ثمَّ سُئل الإمام علي كرَّم الله وجهه فقال: نعم تلد المرأة لستة أشهر ثمَّ تلا قوله تعالى {وفصاله في عامين} وقوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} واستدلَّ بهذه الآية على صحة الحمل وبراءة المرأة·وكان له في القضاء قولٌ فصل وقد رجع إليه الخلفاء الأوائل في كلِّ أمرٍ مُعضل حتى أُثر عن الخليفة عمر رضي الله عنه أنه قال: قضيَّةٌ ولا أبا حسنٍ لها· وقال: أعوذ من قضيةٍ ليس لها أبو حسن· وقال للإمام عليٍ مرة: لولاك لافتضحنا·
قصته مع الأنصار
حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار طالبوا بحقِّهم في الخلافة في حديث السقيفة ولما وصل الخبر إلى الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت الأنصار: منكم أمير ومنا أمير· قال: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلموصَّى بأن يُحسنَ إلى مُحسنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجَّة عليه؟ قال: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيةُ بهم·
جدله مع الخوارج
بعد اختلاف الخوارج مع الإمام علي كرَّم الله وجهه أرسل إليهم ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما وقال له: لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمَّال أوجه، تقول ويقولون· فذهب إليهم كما أمره ثمَّ قال لهم: ما تقولون في مرتكب الكبيرة؟ قالوا: كافر· قال: فما أصلكم في هذا؟ قالوا قوله تعالى: {ومن يقتلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيما} فأقبل الإمام علي وقال له: صه يا بن عباس ألم أنهك عن جدالهم بالقرآن· ثمَّ أقبل عليهم وقال: ما تقولون في مرتكب الكبيرة؟ قالوا: كافر· قال: سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسَّقَم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب· وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المُحصن، ثمَّ صلَّى عليه ثمَّ ورَّثه أهله، وقتل القاتل وورَّث ميراثَه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني غير المُحصن ثمَّ قسَّم عليهما من الفيء ونكحا المُسلمات، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلمعليهم بذنوبهم وأقام حقَّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله، ثمَّ أنتم شرار الناس ومن رمى به الشيطان مراميه· فسكتوا وقد ألزمهم كرَّم الله وجهه الحجَّة مستدلا بسنَّته صلى الله عليه وسلم·
حواره مع كليب الجرمي
بعد وقعة الجمل وقعت الشبهات في نفوس أهل البصرة فأرسلوا رجلا يسمَّى كُليباً الجرمي إلى الإمام علي ليعلم حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فحاوره الإمام علي حتى ألزمه الحجَّة ثمَّ قال له: بايع· فقال: إنما أنا رسولُ قومٍ ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم· فقال له الإمام: أرأيتَ لو أنَّ الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعتَ إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب، ما كنتَ صانعا؟ قال: كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال الرجل: فوالله ما استطعت عند قيام الحجَّة عليَّ فبايعته رضي الله تعالى عنه·
جاء في كتاب الوصايا لسيدي محي الدين قدَّس الله سرَّه كثيرٌ من علوم النبوَّة التي خصًّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلمالإمام عليَّاً كرَّم الله وجهه، وقد نسب إليه كرَّم الله وجهه كثيرٌ من المغيِّبات وقد أشار إلى هذا في كثيرٍ من خطبه قال: أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض قبل أن تشغَرَ برجلِها فتنةٌ تطأ في خِطامها وتذهب بأحلام قومها· وقد صدق في قوله فقد شغلوه بالفتن والحروب فلم يستفيدوا منه ولو تركوه وأطاعوه وسلَّموا له الأمر لاستفادوا منه كثيرا· وقال في خطبةٍ أخرى: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئةٍ تَهدي مائةً وتضلُّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومُناخ ركابها ومحطِّ رحالها ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموتُ منهم موتا·وقد أخبر عن الملاحم بالبصرة فأخبر عن ثورة الزنج وعن الأتراك قال: يا أحنف كأني به قد سار بالجيش الذي لا يكون له غبارٌ ولا لجبٌ ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، ويلٌ لسككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يُندب قتيلُهم ولا يُفتقد غائبُهم، وفي هذا يذكر الثورة التي وقعت بعد ذلك بزمان طويل ووصفَهم بأنَّهم حُفاةٌ ليس لهم خيلٌ يركبون عليها· ثم وصف ما سيكون عليه حال الأتراك وهذا في أواخر دولة بني العبَّاس· قال: كأني أراهم قوماً كأنَّ وجوههم المجانُ المطرَّقة (الجلود التي تلصق على الدروع) يلبسون السرق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق· ويكون استحرارُ قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المُفلت أقل من المأسور· فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب· فضحك كرَّم الله وجهه وقال: يا أخا كلبٍ ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلُّم من ذي علم وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله:{إنَّ الله عنده علم الساعة وينزِّل الغيثَ ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت}· فيعلم الله سبحانه وتعالى ما في الأرحام من ذكرٍ أوأنثى وقبيحٍ أو جميل، وسخيٍّ أو بخيل، وشقيٍّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمه الله نبيَّه فعلَّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمَّ عليه جوانحي·
وصيَّته لكميل بن زياد
يا كميل بن زياد القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك، الناس عالمٌ ربَّانيٌّ ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة وهمجٌ رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسُك وأنت تحرس المال، العلم يزكو عل العمل والمال تنقصه النفقة،ومحبَّة العالم دينٌ يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثةِ بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، إنَّ هاهنا ـ وأشار إلى صدره الشريف ـ علماً لو أصبتُ له حملة، بلى أصبته لقنا غير مأمونٍ عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يَستظهِرُ بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرةَ له في إحيائه، يقتدح الشكُّ في قلبه لأوَّل عارض شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهومٌ باللذات، سلس القيادة للشهوات، أو مغرىً بجمع الأموال والادَّخار، وليسا من دعاة الدين، أقربُ شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموتُ العلم بموت حامليه، اللهمَّ بلى لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجَّة لئلا تبطلُ حجج الله وبيِّناته، أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها متعلِّقةٌ بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاهٍ هاهٍ شوقاً إلى رؤيتهم، واستغفر الله لي ولك إذا شئتَ فقم·
زهده وتعبُّده رضي الله عنه
جاء ابن النبَّاج إلى عليٍّ كرَّم الله وجهه فقال له: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر فقام متوكئاً على ابن النبَّاج حتى قام على بيت مال المسلمين ثمَّ قال: يا بن النبَّاج عليَّ بأشياعِ الكوفة، فنُوديَ في أشياع الكوفة فقسَّم جميع ما في بيت المال، وهو يقولُ: يا صفراء يا بيضاء غُرِّي غيري ها وها ! حتى ما بقي منه دينارٌ ولا درهم، ثمَّ أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين·وكان يكنس بيتَ المال ويتخذَه مسجداً رجاءَ أن يشهد له يوم القيامة·
ووُضع أمامه فالوذج (نوع من الحلوى) فقال يخاطبه: إنك طيِّب الريح، حسن اللون طيِّب الطعم ولكني أكره أن أعوِّدَ نفسي ما لم تعتده· وكان كرَّم الله وجهه لا يأكل إلا من طعامٍ يجيئه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلملا يأكل من طعام الكوفة· ودخل عليه بعض أصحابه في الشتاء وهو يرتعد من البرد وليس عليه إلا ثوبٌ رقيق فقال له: إنَّ الله جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما أرزأكم من مالكم شيئا وإنها لقطيفتي التي خرجتُ بها من منزلي بالمدينة· وقيل لأمير المؤمنين: لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن· ومن أخذ ساداتنا الصوفية لبس المرقَّعات فهو شيخهم وقدوتهم· وقال لنوف البكالي : (يانوفُ طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتَّخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثاراً وشعارا، قرضوا الدنيا على منهاج المسيحِ عليه السلام)·
فطوبى لمن تبع منهجه في ترك الدنيا والإعراض عنها·قال أبو نعيم الأصبهاني: فالمحققون بمولاة العترة الطيِّبة هم الذُّبل الشفاه، المُفترشو الجباه، الأذلَّاء في المُفناة، المفارقون لمؤثري الدنيا من الطغاة، هم الذين خلعوا الراحات، وزهدوا في لذيذ الشهوات، وأنواع الأطعمة، وألوان الأشربة، فدرجوا على منهاج المسلمين،، والأولياء من الصدِّيقين، ورغبوا في الزائد الباقي، في جوار المنعم المفضال، ومُولي الأيادي والنوال·شجاعة الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه
ظلَّ الإمام عليَّاً على مرِّ الزمان رمز الفارس الأوحد الذي تضرب به الأمثال في الشجاعة والبسالة والإقدام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أبسلُ الناس عليٌّ وأشجع الناس الزبير)، والبسالة فوق الشجاعة وقال الراهب الذي بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم: ويُعينه على أمره فتىً وشيخ ـ يعني أبابكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: أما الفتى فخوَّاضُ غمراتٍ، كشَّاف مُعضلات. وقد تجلَّت شجاعته في مبدأ الهجرة الأولى عندما نام في فراش رسول الله فكان أوَّل من فدى رسول الله بنفسه، وقال الإمام الرازي (إنَّ الله أنزل على نبيِّه في هذا قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} وذكر أن جبريل كان يقول عليٍّ كرَّم الله وجهه: بخٍ بخ؛ من مثلك يباهي به الله ملائكته ! وله المواقف المشهودة في كلِّ مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من غزوةٍ إلا وهو فتاها الأول ولم يهزم قط. وله العلم الوافي بعلوم الحرب وقد قال كرَّم الله وجهه: قالت قريشٌ إنَّ ابن أبي طالبٍ رجلٌ شجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدَّ لها مراسا وأقدم منها مقاماً مني، لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين، وها أنا قد ذرَّفتُ على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع. إنَّ عليَّ من الله جنة حصينة فإذا حان يومي انفرجت عني وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم.
ومن كلامه في تعليم الحرب
معاشر المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلبوا السكينة، وعضوا على النواجذ فإنه أنبي للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة (الدرع) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلِّها، والحظوا الخزر(انظروا نظر الغضب) واطعنوا الشزر(يمينا وشمالا)، ونافحوا بالظبا (أطراف السيوف)، وصلوا اليوف باللخطى، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاودوا الكرَّ واستحيوا من الفر، فإنه عارٌ في الأعقاب، ونارٌ يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا،وامشوا إلى الموت مشياً سجحا. وقال لأصحابه في ساعة الحرب: وأي امريءٍ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلا، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها علي كما يذبُّ عن نفسه، فلو شاء اللهُ لجعله مثله، الموت طالبُ حثيثٌ لا يفوت المقيم ولا يعجزه الهارب، إنَّ أكرم الموت القتل، والذي نفس أبي طالب بيده، لألف ضربةٍ بالسيف أهون من ميتةٍ على الفراش في غير طاعة الله. وقال كرَّم الله وجهه لأصحابه في ساعة اللقاء: فقدِّموا الدارع وأخِّروا الحاسر، وعُضوا على الأضراس، فإنه أنبي للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمورُ للأسنة، وغُضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. لأنَّ في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإنَّ الفارَّ لغير مزيدٍ في عمره، ولا محجوزٍ بينه وبين يومه. فإذا عضَّ الفارس على أضراسه وأصابته الضربة على رأسه ارتدَّ السيف، وإذا حرَّك الفارس جسمه يميناً وشمالا أخطأته الرماح، وينصحهم أن لا يكثر الفارس من التلفُّت فقد يرى ما يخيفه.
ولسيدنا علي المواقف المشهودة في بدرٍ وفي أحد وفي الخندق وفي حنين حيث ثبت مع رسول الله وفي خيبر حيث فتح للمسلمين على يديه وحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(لأعطينَّ الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله ويحبُّ الله ورسوله) ولم تكن قوَّة الإمام علي قوة بشرية طبيعية بل كانت قوَّةً خصَّه الله تعالى بها فقد رُوي أنَّه لما حمل عليه مرحب اليهودي ضربه فأطار تُرسه من يده، فتناول الإمام علي كرَّم الله وجهه باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله الحصن، ثمَّ ألقاه عن يده وراءه ثمانين شبرا، قال الراوي: فجهدتُ أنا وسبعة نفرٍ على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر. وقد قاتل في غزوة الخندق فارسَ الأحزاب عمرو بن عبد ودٍّ حين خرج وقال: هل من مبارز؟ فأحجم الناس وقال علي كرَّم الله وجهه: أنا له يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس فإنه عمرو بن عبد ود. ثمَّ كرَّر عمرو النداء وجعل يوبِّخ المسلمين ويقول: أين جنَّتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون ليَّ رجلا وأنشد:
ولقد بححتُ من الندا ء بجمعكم هل من مبارزْإنَّ الشجاعةَ في الفتى والجودَ من خير الغرائزْ
فقام عليٌّ كرَّم الله وجهه وقال: أنا له يارسول الله، فقال له: إنه عمرو فقال: وإن كان عمرأ. فأذن له فأقبل عليه وهو ينشد:
لا تعجلنَّ فقد أتا ك مجيب قولٍ غير عاجزْذو نيَّةٍ وبصيرة والصدق منجي كلِّ فائزْإني لأرجو أن أُقيـ مَ عليك نائحة الجنائزْ
وفي روايةٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وقال: اللهمَّ أعنه عليه ـ وفي روايةٍ ـ هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. فمشى إليه عليٌّ كرَّم الله وجهه فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدتَ الله لا يدعوك رجلٌ من قريش إلى إحدى خصلتين إلا اخترت إحداهما قال: أجل. قال كرَّم الله وجهه: فإني أدعوك إلى الله ورسول وإلى الإسلام. قال: لا حاجةَ لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى القتال، قال: لم يابن أخي فوالله ما أحبُّ أن أقتلك. قال علي: ولكني أحبُّ أن اقتلك. فغضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى إلي عليٍّ بسيفٍ كأنَّه شعلة نار فاستقبله بالدرقة فقدَّ الدرقةَ وأثبت سيفه فيها، وأصاب رأس عليٍّ فشجَّه وضربه عليٌّ كرَّم الله وجهه على حبل عاتقه فسقط، وكبَّر المسلمون فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير عرف أن علياً كرَّم الله وجهه قتل عمراً لعنه الله.وفي تفسير الفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلَّم سأل عليَّا: كيف وجدتً نفسك معه يا علي؟ قال: وجدته لو كان أهل المدينة كلُّهم في جانب وأنا في جانب لقدرتُ عليهم. وفي صفين خرج رجلٌ من أهل الشام فقتل أربعةً من أصحاب عليٍّ كرَّم والله وجهه وعليٌّ قد جاوز الستين فخرج إليه الإمام فقتله وقتل ثلاثة آخرين فقال: أربعةٌ بأربعة والجروح قصاص. ورجع فقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما: اخرج إليه الآن وادعه للمبارزة فإن الجهد قد بلغ منه. فقال له معاوية: والله ما أردتَ إلا قتلي ليكون لك الأمر من بعدي فأنت تعلم أنَّ عليَّاً لم يهزم قط.
مقتل الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه
بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام عليَّاً بالشهادة قال الإمام علي:إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عليُّ إنَّ أمَّتي سيفتنون من بعدي. فقلتُ: يا رسول الله أو ليس قد قلتَ لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة، فشقَّ ذلك عليَّ فقلتَ لي: أبشر، فإنَّ الشهادة من ورائك. فقال لي: إنَّ ذلك لكذلك، فكيفَ صبرُك يومئذ؟ فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر. وكان من أوَّل الإسلام حريصاً على الشهادة وقد ذكر هذا في قوله كرَّم الله وجهه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا احمرَّ البأس قدَّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرَّ السيوف، فقُتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة، وأراد من شئتُ ذكرتُ اسمه مثل الذي أرادوا ولكنً آجالهم عُجِّلت ومنيَّته أجِّلت. وقال لقومٍ رموه بالتردد في القتال: والله لابن أبي طالبٍ آنس بالموت من الطفل بثديِ أمِّه. وكان يقول عندما كثر خلاف الناس له: أما آن لأشقاها أن يخضِّبَ هذه من هذه. ويشير إلى رأسه ولحيته. وقال كرَّم الله وجهه في سحرة اليوم الذي ضُرب فيه: ملكتني عيني وأنا جالس فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما لقيتُ من أمَّتك من الأود واللدد (الإعوجاج)؟ فقال لي: أدع عليهم. فقلت: اللهمَّ أبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم بي شرَّاً لي منهم.
ولما خرج للصلاة صاحت الإوزات اللاتي كنَّ في البيت واعترضن طريقه، فزجرتهنَّ السيدة زينب رضي الله تعالى عنها، فقال الإمام كرَّم الله وجهه: دعيهنَّ فإنهنَّ نوائ!
.وقد تآمر ثلاثةٌ من الخوارج على مقتل سيدنا علي وسيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً فأما الذي قصد معاوية فأصابه ولم يقتله، وأما الذي قصد عمرو بن العاص فقتل خارجة بدلا عنه وهو يظنُّه عمراً وأما الذي قصد علياً كرَّم الله وجهه فأصابه في مقتل وذكر ابن عبدون هذه الحادثة فقال:
وليتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ فدتْ عليَّاً بمن شاءتْ من البشرِأي ليتها في ذلك اليوم فدت عليَّاً رضي الله عنه بجميع أهل زمانه.
جاء عن أحد أصحابه كرَّم الله وجهه: إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلُّون في ذلك الشهر من أوَّل الليل إلى آخره إذ نظرتُ إلى رجالٍ يصلُّون قريباً من السدَّة قياما وركوعاً لا يسأمون، إذ خرج عليهم علي بن أبي طالبٍ في الفجر فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة، وبعدها رأيتُ بريق السيف وسمعتُ قائلا يقول: الحكم لله لا لك يا علي، ثمَّ رأيتُ بريق سيفٍ آخر وسمعتُ عليَّاً يقول: لا يفوتنَّكم الرجل.. قيل فأما بريق السيف الأوَّل فكان شبيب بن بحيرة وأما بريق السيف الثاني فكان ابن ملجم لعنهما الله تعالى، وقالت السيدة زينب رضي الله تعالى عنها لما رأت الجرح: ليس بأبي من بأس، فقال ابن ملجم لعنه الله: والله لقد اشتريتُه بألف ـ وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله ـ يعني السيف،
أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرةٌ لكم وغداً مفارقُكم، غفر الله لي ولكم،، وإنما كنتُ جاراً لكم جاوركم بدني أياما، وستعقبون مني جثَةً خلاء، ساكنةً بعد حراك، وصامتةً بعد نطقٍ، وليعظْكم هدوِّي وخفوت إطراقي، وسكونُ أطرافي، فإنَّهُ أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع، وقد أوصى ولديه الحسن والحسين رضي الله عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيءٍ منها زوي، وقولا بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا. يا بني عبد المطَّلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقْتُلُنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إن أنا متُّ فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثَّل بالرجل فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور. إيمانٌ وتسليمٌ بما قضى الله سبحانه وتعالى ودعوةٌ إلى إقامة الحقِّ والعدل يودِّع بها الدنيا.
إنَّ سيرة الإمام علي كرَّم الله وجهه يجب أن تعود إلى أجهزتنا الإعلامية في المجتمع السني الذي يجتنب ذكرى الإمام علي وذكرى آل البيت حتى ينفي عن نفسه تهمة التشيُّع، إنَّ التاريخ ورجاله يجب أن يبوِّءوا هؤلاء الرجال منازلهم وألا يبخسوهم حظَّهم فهم حملة لواء الإسلام والزائدين عن حوضه والحاملين أمانته حين كان أهل الإسلام قلَّةً مستضعفين.قال الشيخ فخر الدين رضي الله عنه:
وإنِّي ظلُّ نورٍ من عليٍّ وعنْ قولٍ سديدٍ ما انْحَسَرتُقضيتُ سِنِيًّا أرتجي ساعةَ اللِّقالِذاكَ تعانقنا عناقَ الأحبَّة
وهو أوَّل هاشميٍّ ولد من أبوين هاشميين أبوه عم النبي صلى الله عليه وسلم وناصره وحاميه حزن عليه رسول الله لشدَّة حبِّه له، وأمُّه فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها وهي التي ربَّت رسول الله وهي التي نزل رسول الله في قبرها ودعا لها بأن يقيها الله ضغطة القبر.
لم يجتمع لأيِّ واحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزايا ما اجتمع للإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه حتى أن الإمام ابن الأثير تحدَّث عن فضائل الصحابة ولما أتى لسيرة الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه قال: ولكثرة فضائله رأينا أن نفرد كتاباً لها، وكان من المصائب التي وقعت في مجتمع أهل السنة أن بعض الذين جعلوا أنفسهم أوصياء على عقائد الناس أهملوا سيرته في مناهجنا ووسائلنا الإعلامية، وهو أعظم الصحابة مزيَّة. إن سيرة الإمام علي تكاد تكون مهملة لأنهم يعتقدون أن الإمام علي كرَّم الله وجهه هو إمام الشيعة وأنهم إذا تحدَّثوا عن فضائله نصروا المذهب الشيعي
من أسمائه حيدرة وهو الذي قال:أنا الذي سمَّتني أمي حيدرةكليثِ غاباتٍ كريه المنظرةأكيلهم بالسيف كيل السندرة
وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عليَّاً بأبي تراب حين وجده نائماً هو وعمَّار بن ياسر وقد علق به التراب فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال: قم يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب.
ولد الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه في بيت الله الحرام لما دخلت السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها البيت لتطوف به فجاءها المخاض فولدته في البيت الحرام فما فتح عينه في الدنيا إلا في البيت المحرَّم المعظَّم إرهاصاً لما سيكون عليه حاله وما سيكون له من عظيم المنزلة عند الله ورسوله. قال العقَّاد: ولد عليٌّ في داخل الكعبة وكرَّم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنَّما كان ميلاده هناك إيذاناً بعهدٍ جديد للكعبة والعبادة فيها.
ثمَّ شاء له الله تعالى أن يكون ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذه رسول الله من والده أبي طالب ليُربِيَه فكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأنَّ قريشاً كان قد أصابه قحطٌ شديد، وكان أبو طالب رضي الله عنه كثير العيال فقال رسول الله لعمِّه العبَّاس:إنَّ أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدَّة فانطلق بنا فلنخفف من عياله،تأخذ واحداً وأنا واحدا فجاءا إليه فقالا: إنا نريد أن نخفِّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّاً فضمَّه إليه وأخذ العباس رضي الله تعالى عنه جعفراً فضمَّه إليه فلم يزل عليٌّ مع رسول الله. قال كَرَّم الله وجهه: ولقد علمتم مكانتي من رسول الله بالمنزلة الخصيصة والقرابة القريبة أخذني في حِجره وأنا وليد يكنفني في فراشه ويضمُّني إلى صدره ويُشمُّني عرفه ويُمسَّني جسده وكان يمضغ الشيء ثمَّ يُلقمنيه، ولقد كنتُ اتَّبعه اتَّباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور كلَّ سنةٍ بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولقد سمعتُ رنَّة الشيطان حين نزل عليه الوحيُ فقلت يا رسول الله ما هذه الرنَّة. فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنَّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنَّك لستَ بنبيٍّ ولكنَّك وزير وإنَّك لعلى خير. وفي خصائص العشرة للزمخشري (أنَّ النبيَّ ما شاء الله عزَّ وجلَّ. تولَّى تسميته بعلي وتغذيته أياما بريقه المبارك بمصِّه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنه أنها قالت: لمَّا ولدته سمَّاه عليَّاً وبصق في فيه، ثمَّ إنَّ ألقمه لسانه فما زال يمصُّه حتى نام، فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا ه محمداً فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله عزَّ وجلّ).
ولقد كنتُ معه صلى الله عليه وسلم لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له يا محمد إنَّك قد ادَّعيت عظيماً لم يدَّعه آباؤك ولا أحدٌ من بيتك ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنَّك نبيٌّ ورسول وإن لم تفعل علمنا أنَّك ساحرٌ كذَّاب فقال صلى الله عليه وسلم: وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتَّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك فقال: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم. قال: فإني سأريكم ما تطلبون وإني لأعلم أنَّكم لا تفيئون إلا إلى خير وإنَّ فيكم من يطرح في القليب ويحزِّب الأحزاب ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم يا أيَّتها الشجرة إن كنتِ تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسولُ الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بينَ يديَّ بإذن الله، فوالذي بعثه بالحقِّ انقلعت بعروقها وجاءت ولها دويٌّ شديد، وقصف كقصف أجنحة الطير، وقفت بين يدي رسول الله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله وببعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه، فلمَّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوَّاً واستكبارا: مرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها فأمرها بذلك فأقبل عليه نصفها كأعجب إقبال وأشدِّه دويَّا فكادت تلتفُّ رسول الله، فقالوا كفراً وعتوَّا فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع، فقلت أنا، لا إله إلا الله أنا أوَّل مؤمنٍ بك يارسول الله وأوَّل من أقرَّ بأنَّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصدِّقاً بنبوَّتك، وإجلالاً لكلمتك، فقال القوم كلُّهم بل ساحر كذَّاب عجيب السحر خفيفٌ فيه وهل يصدِّقك في أمرك إلا مثل هذا يَعنونني وإني لمن قومٍ لا تأخذُهم في الله لومةُ لائم.
وصفه كرَّم الله وجهه
جاء في الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البرِّ أنه كان ربعةً أميل إلى القصر، شديد السمرة، أصلع الرأس، ثقيل العينين في دعجٍ وسعة، حسن الوجه واضح البشاشة، أغيد كأنَّما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين، له مشاش عظام كمشاش السبع الضاري، لا يتبيَّن عضده من ساعده قد أدمج إدماجا، كبير البطن، يميل إلى السمنة من غير إفراط، ضخم عضلة الساق دقيق مستدَّقها، ضخم عضلة الذراع، شثن الكفَّين يتكمفَّأ في مشيته على نحوٍ يقارب مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقدامُ في الحرب يُقدِم مهرولاً لا يلوي على شيء.
فضله كرَّم الله وجهه
سبق إلى الإسلام وهو لم يبلغ الحلم وهو القائل:
سبقتكمو إلى الإسلام طرَّاً صغيراً ما بلغتُ أوانَ حلمي
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجَّار صاحب يس وعلي ابن أبي طالب وهو أفضلهم. وعن مجاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: ما أنزل الله آيةً فيها: يا أيها الذين آمنوا إلا وعليٌّ رأسها وأميرها.
جاء في صحيح ابن ماجة: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصدِّق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذَّاب، صلَّيت قبل الناس سبع سنين. وفي مسند الإمام أحمد أنَّ ابن مسعودٍ كان يقول: أوَّل شيءٍ علمته من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قدمتُ مكَّة مع عمومةٍ لي فأرشدنا إلى العبَّاس ابن عبد المطَّلب، فانتهينا إليه وهو جالسٌ إلى زمزم فجلسنا إلى جانبه، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجلٌ من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة له وفرةٌ جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف برَّاق الثنايا، أدعج العينين، كثُّ اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفَّين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام أمرد، حسن الوجه مراهقٌ أو محتلم، تقفوزه امرأةٌ قد سترت محاسنها فقصد الحجر واستلمه وفعل ذلك الغلام والمرأة وطافا معه، فقلنا يا أبا الفضل،؛ ما هذا الذي لم نكن نعرفه فيكم، أوَشيءٌ حدث؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله والغلام الذي معه علي بن أبي طالب والمرأة هي زوجته خديجة بنت خويلد، أما والله ما على وجه الأرض من أحدٍ نعلمه يعبد الله بهذا الدين غيرُ هؤلاء الثلاثة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عليُّ أخصمك بالنبوَّة ولا نبوَّة بعدي، وتخصم الناس بسبعٍ ولا يحاجُّك فيها أحدٌ من قريش، أنتَ أوَّلهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسويَّة وأعدلهم في الرعيَّة، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مرزية.، وعن أبي سعيدٍ الخدري قال: يا عليُّ لك سبع خصال لا يحاجُّك فيهنَّ أحدٌ يوم القيامة أنت أوَّل المؤمنين بالله إيمانا وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأرفهم بالرعية، وأقسمهم بالسوية، وأعلمهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية.وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرَّم الله وجهه: مرحباً بسيِّد المسلمين، وإمام المتَّقين. فقيل لعليٍّ: فأي شيءٍ كان من شكرك؟ قال: حمدت الله تعالى على ما آتاني، وأن يزيدني مما أعطاني. وعن أنس بن مالك: قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى إلى أبي برزة الأسلمي فقال له وأنا أسمع: إنَّ ربَّ العالمين عهد إليَّ عهداً في عليِّ بن أبي طالب؛ فقال: إنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونورُ جميع من أطاعني، يا أبا برزة علي بن أبي طالب أميني غداً في القيامة، وصاحبُ رايتي في القيامة على مفاتيح خزائن ربي.
وعن أبي برزة: إنَّ الله عهد إليَّ عهدا في علي فقلتُ ياربِّ بيِنه لي، فقال: إنَّ عليَّاً راية الهدى، وإمام أوليائي ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتَّقين، من أحبَّه أحبَّني، ومن أبغضه أبغضني، فبشِّره بذلك فبشَّرته، فقال لي: يا رسول الله أنا عبد الله وفي قبضته، فإن يعذِّبني فبذنبي، وإنْ يتمَّ الذي بشرتني به فالله أولى بي.
لعلي: يا علي إنَّ الله أمرني أن أدنيك وأعلِّمك لتعي.
وأنزلت هذه الآية {وتعيها أذن واعية} قيل هي أذن علي بن أبي طالب. وقال كرَّم الله وجهه:والله ما نزلت آيةٌ إلا وعلمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إنَّ ربي وهب لي قلباً عقولا، ولساناً سؤولا. وعن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: يا عليُّ إنَّ الله زيَّنك بزينة لم تزيَّن العباد بزينةٍ أحبَّ إلى الله تعالى منها، هي زينة الأبرار عند الله عزَّ وجل، الزهد في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا، ولا ترزأ الدنيا من شيئاً. نحن شجرة النبوَّة، ومحطُّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبُّنا ينتظر الرحمة، وعدوُّنا ومُبغضنا ينتظر السطوة. وقال: أنا وعلي كنَّا نورين بين يدي القديم الأزلي ننتقل من صلب طاهرٍ إلى رحم طيِّب حتى ظهرتُ في عبد الله وظهر في أبي طالب،وفي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوَّل هذه الأمَّة وروداً على الحوض أوَّلها إسلاماً علي بن أبي طالب، ولما استُشهد الإمام علي كرَّم الله وجهه قام ابنه الحسن بن علي رضي الله فقال: لقد فارقكم رجلٌ بالأمس لم يسبقه الأوَّلون ولم يدركه الآخرون بعلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه فيعطيه الراية فلا يرتدَّقال سيدي الشيخ فخر الدين رضي الله عنه:
وفقِّهتُ من أسرارِه ما لو يشا سبعينَ راحلةً بذاك لأوقرامن علمِه في علمِه وبعلمِه حزتُ الكمالَ ولم أزلْ مدَّثرا
فيه إشارة لكلام الإمام علي كرَّم الله وجهه وذلك أنَّ سيِّدنا ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما سأل الإمام عليَّاً عن تفسير سورة الفاتحة ففسَّرها له يوماً إلى الليل ثمَّ جاءه في اليوم الثاني ففسَّرها له أيضاً إلى الليل إلى أن أكمل ثلاثة أيام فتعجَّب ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما من كثرة علمه فقال له الإمام كرَّم الله وجهه: لو شئتَ لأوقرتُ لك منها سبعين بعيرا· وقال صلى الله عليه وسلم: قُسِّمت الحُكمُ (الحكمة) عشرة أجزاء فأُعطِيَ عليٌّ تسعةَ أجزاء والناس جزءاً واحدا) اشتهر الإمام علي كرَّم الله وجهه بالعلم حتى سأله الصحابة رضي الله عنهم: أخصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلمبشيء؟ قال: لا ولكن بفهمٍ أدقَّ في كتاب الله· وجاء في تفسير قوله تعالى {وتعيها أذنٌ واعية} أنها أذن الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه· وقد وردت الأمثلة كثيرة في هذا ومنه قول الإمام علي كرَّم الله وجهه في إحدى خطبه: أنزل عليكم أمانان وقد رُفع أحدهما وبقي الآخر، فأما الأمان الذي رُفع فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأمان الذي بقي فالاستغفار· ثمَّ تلا قوله تعالى {وما كان الله ليعذِّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون} وقد حدث في عهد الخليفة ذي النورين رضي الله عنه أن رجلا ادَّعى على امرأته أن حملها ليسَ منه لأنها ولدت لستة أشهر، فحُكم عليها بالرجم لأنها زانية فالمرأة لا تلد لستة أشهر، ثمَّ سُئل الإمام علي كرَّم الله وجهه فقال: نعم تلد المرأة لستة أشهر ثمَّ تلا قوله تعالى {وفصاله في عامين} وقوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} واستدلَّ بهذه الآية على صحة الحمل وبراءة المرأة·وكان له في القضاء قولٌ فصل وقد رجع إليه الخلفاء الأوائل في كلِّ أمرٍ مُعضل حتى أُثر عن الخليفة عمر رضي الله عنه أنه قال: قضيَّةٌ ولا أبا حسنٍ لها· وقال: أعوذ من قضيةٍ ليس لها أبو حسن· وقال للإمام عليٍ مرة: لولاك لافتضحنا·
قصته مع الأنصار
حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار طالبوا بحقِّهم في الخلافة في حديث السقيفة ولما وصل الخبر إلى الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت الأنصار: منكم أمير ومنا أمير· قال: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلموصَّى بأن يُحسنَ إلى مُحسنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجَّة عليه؟ قال: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيةُ بهم·
جدله مع الخوارج
بعد اختلاف الخوارج مع الإمام علي كرَّم الله وجهه أرسل إليهم ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما وقال له: لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمَّال أوجه، تقول ويقولون· فذهب إليهم كما أمره ثمَّ قال لهم: ما تقولون في مرتكب الكبيرة؟ قالوا: كافر· قال: فما أصلكم في هذا؟ قالوا قوله تعالى: {ومن يقتلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيما} فأقبل الإمام علي وقال له: صه يا بن عباس ألم أنهك عن جدالهم بالقرآن· ثمَّ أقبل عليهم وقال: ما تقولون في مرتكب الكبيرة؟ قالوا: كافر· قال: سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسَّقَم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب· وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المُحصن، ثمَّ صلَّى عليه ثمَّ ورَّثه أهله، وقتل القاتل وورَّث ميراثَه أهله، وقطع السارق وجلد الزاني غير المُحصن ثمَّ قسَّم عليهما من الفيء ونكحا المُسلمات، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلمعليهم بذنوبهم وأقام حقَّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله، ثمَّ أنتم شرار الناس ومن رمى به الشيطان مراميه· فسكتوا وقد ألزمهم كرَّم الله وجهه الحجَّة مستدلا بسنَّته صلى الله عليه وسلم·
حواره مع كليب الجرمي
بعد وقعة الجمل وقعت الشبهات في نفوس أهل البصرة فأرسلوا رجلا يسمَّى كُليباً الجرمي إلى الإمام علي ليعلم حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فحاوره الإمام علي حتى ألزمه الحجَّة ثمَّ قال له: بايع· فقال: إنما أنا رسولُ قومٍ ولا أحدث حدثاً حتى أرجع إليهم· فقال له الإمام: أرأيتَ لو أنَّ الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعتَ إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب، ما كنتَ صانعا؟ قال: كنتُ تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال الرجل: فوالله ما استطعت عند قيام الحجَّة عليَّ فبايعته رضي الله تعالى عنه·
جاء في كتاب الوصايا لسيدي محي الدين قدَّس الله سرَّه كثيرٌ من علوم النبوَّة التي خصًّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلمالإمام عليَّاً كرَّم الله وجهه، وقد نسب إليه كرَّم الله وجهه كثيرٌ من المغيِّبات وقد أشار إلى هذا في كثيرٍ من خطبه قال: أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض قبل أن تشغَرَ برجلِها فتنةٌ تطأ في خِطامها وتذهب بأحلام قومها· وقد صدق في قوله فقد شغلوه بالفتن والحروب فلم يستفيدوا منه ولو تركوه وأطاعوه وسلَّموا له الأمر لاستفادوا منه كثيرا· وقال في خطبةٍ أخرى: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئةٍ تَهدي مائةً وتضلُّ مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومُناخ ركابها ومحطِّ رحالها ومن يقتل من أهلها قتلاً ومن يموتُ منهم موتا·وقد أخبر عن الملاحم بالبصرة فأخبر عن ثورة الزنج وعن الأتراك قال: يا أحنف كأني به قد سار بالجيش الذي لا يكون له غبارٌ ولا لجبٌ ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، ويلٌ لسككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يُندب قتيلُهم ولا يُفتقد غائبُهم، وفي هذا يذكر الثورة التي وقعت بعد ذلك بزمان طويل ووصفَهم بأنَّهم حُفاةٌ ليس لهم خيلٌ يركبون عليها· ثم وصف ما سيكون عليه حال الأتراك وهذا في أواخر دولة بني العبَّاس· قال: كأني أراهم قوماً كأنَّ وجوههم المجانُ المطرَّقة (الجلود التي تلصق على الدروع) يلبسون السرق والديباج ويعتقبون الخيل العتاق· ويكون استحرارُ قتل حتى يمشي المجروح على المقتول ويكون المُفلت أقل من المأسور· فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب· فضحك كرَّم الله وجهه وقال: يا أخا كلبٍ ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلُّم من ذي علم وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله:{إنَّ الله عنده علم الساعة وينزِّل الغيثَ ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت}· فيعلم الله سبحانه وتعالى ما في الأرحام من ذكرٍ أوأنثى وقبيحٍ أو جميل، وسخيٍّ أو بخيل، وشقيٍّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله وما سوى ذلك فعلمٌ علَّمه الله نبيَّه فعلَّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمَّ عليه جوانحي·
وصيَّته لكميل بن زياد
يا كميل بن زياد القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك، الناس عالمٌ ربَّانيٌّ ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة وهمجٌ رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسُك وأنت تحرس المال، العلم يزكو عل العمل والمال تنقصه النفقة،ومحبَّة العالم دينٌ يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثةِ بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، إنَّ هاهنا ـ وأشار إلى صدره الشريف ـ علماً لو أصبتُ له حملة، بلى أصبته لقنا غير مأمونٍ عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يَستظهِرُ بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرةَ له في إحيائه، يقتدح الشكُّ في قلبه لأوَّل عارض شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهومٌ باللذات، سلس القيادة للشهوات، أو مغرىً بجمع الأموال والادَّخار، وليسا من دعاة الدين، أقربُ شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموتُ العلم بموت حامليه، اللهمَّ بلى لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجَّة لئلا تبطلُ حجج الله وبيِّناته، أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها متعلِّقةٌ بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إلى دينه، هاهٍ هاهٍ شوقاً إلى رؤيتهم، واستغفر الله لي ولك إذا شئتَ فقم·
زهده وتعبُّده رضي الله عنه
جاء ابن النبَّاج إلى عليٍّ كرَّم الله وجهه فقال له: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر فقام متوكئاً على ابن النبَّاج حتى قام على بيت مال المسلمين ثمَّ قال: يا بن النبَّاج عليَّ بأشياعِ الكوفة، فنُوديَ في أشياع الكوفة فقسَّم جميع ما في بيت المال، وهو يقولُ: يا صفراء يا بيضاء غُرِّي غيري ها وها ! حتى ما بقي منه دينارٌ ولا درهم، ثمَّ أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين·وكان يكنس بيتَ المال ويتخذَه مسجداً رجاءَ أن يشهد له يوم القيامة·
ووُضع أمامه فالوذج (نوع من الحلوى) فقال يخاطبه: إنك طيِّب الريح، حسن اللون طيِّب الطعم ولكني أكره أن أعوِّدَ نفسي ما لم تعتده· وكان كرَّم الله وجهه لا يأكل إلا من طعامٍ يجيئه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلملا يأكل من طعام الكوفة· ودخل عليه بعض أصحابه في الشتاء وهو يرتعد من البرد وليس عليه إلا ثوبٌ رقيق فقال له: إنَّ الله جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما أرزأكم من مالكم شيئا وإنها لقطيفتي التي خرجتُ بها من منزلي بالمدينة· وقيل لأمير المؤمنين: لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن· ومن أخذ ساداتنا الصوفية لبس المرقَّعات فهو شيخهم وقدوتهم· وقال لنوف البكالي : (يانوفُ طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتَّخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثاراً وشعارا، قرضوا الدنيا على منهاج المسيحِ عليه السلام)·
فطوبى لمن تبع منهجه في ترك الدنيا والإعراض عنها·قال أبو نعيم الأصبهاني: فالمحققون بمولاة العترة الطيِّبة هم الذُّبل الشفاه، المُفترشو الجباه، الأذلَّاء في المُفناة، المفارقون لمؤثري الدنيا من الطغاة، هم الذين خلعوا الراحات، وزهدوا في لذيذ الشهوات، وأنواع الأطعمة، وألوان الأشربة، فدرجوا على منهاج المسلمين،، والأولياء من الصدِّيقين، ورغبوا في الزائد الباقي، في جوار المنعم المفضال، ومُولي الأيادي والنوال·شجاعة الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه
ظلَّ الإمام عليَّاً على مرِّ الزمان رمز الفارس الأوحد الذي تضرب به الأمثال في الشجاعة والبسالة والإقدام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أبسلُ الناس عليٌّ وأشجع الناس الزبير)، والبسالة فوق الشجاعة وقال الراهب الذي بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم: ويُعينه على أمره فتىً وشيخ ـ يعني أبابكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: أما الفتى فخوَّاضُ غمراتٍ، كشَّاف مُعضلات. وقد تجلَّت شجاعته في مبدأ الهجرة الأولى عندما نام في فراش رسول الله فكان أوَّل من فدى رسول الله بنفسه، وقال الإمام الرازي (إنَّ الله أنزل على نبيِّه في هذا قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} وذكر أن جبريل كان يقول عليٍّ كرَّم الله وجهه: بخٍ بخ؛ من مثلك يباهي به الله ملائكته ! وله المواقف المشهودة في كلِّ مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من غزوةٍ إلا وهو فتاها الأول ولم يهزم قط. وله العلم الوافي بعلوم الحرب وقد قال كرَّم الله وجهه: قالت قريشٌ إنَّ ابن أبي طالبٍ رجلٌ شجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدَّ لها مراسا وأقدم منها مقاماً مني، لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين، وها أنا قد ذرَّفتُ على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع. إنَّ عليَّ من الله جنة حصينة فإذا حان يومي انفرجت عني وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم.
ومن كلامه في تعليم الحرب
معاشر المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلبوا السكينة، وعضوا على النواجذ فإنه أنبي للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة (الدرع) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلِّها، والحظوا الخزر(انظروا نظر الغضب) واطعنوا الشزر(يمينا وشمالا)، ونافحوا بالظبا (أطراف السيوف)، وصلوا اليوف باللخطى، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاودوا الكرَّ واستحيوا من الفر، فإنه عارٌ في الأعقاب، ونارٌ يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا،وامشوا إلى الموت مشياً سجحا. وقال لأصحابه في ساعة الحرب: وأي امريءٍ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلا، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها علي كما يذبُّ عن نفسه، فلو شاء اللهُ لجعله مثله، الموت طالبُ حثيثٌ لا يفوت المقيم ولا يعجزه الهارب، إنَّ أكرم الموت القتل، والذي نفس أبي طالب بيده، لألف ضربةٍ بالسيف أهون من ميتةٍ على الفراش في غير طاعة الله. وقال كرَّم الله وجهه لأصحابه في ساعة اللقاء: فقدِّموا الدارع وأخِّروا الحاسر، وعُضوا على الأضراس، فإنه أنبي للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمورُ للأسنة، وغُضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل. لأنَّ في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإنَّ الفارَّ لغير مزيدٍ في عمره، ولا محجوزٍ بينه وبين يومه. فإذا عضَّ الفارس على أضراسه وأصابته الضربة على رأسه ارتدَّ السيف، وإذا حرَّك الفارس جسمه يميناً وشمالا أخطأته الرماح، وينصحهم أن لا يكثر الفارس من التلفُّت فقد يرى ما يخيفه.
ولسيدنا علي المواقف المشهودة في بدرٍ وفي أحد وفي الخندق وفي حنين حيث ثبت مع رسول الله وفي خيبر حيث فتح للمسلمين على يديه وحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(لأعطينَّ الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله ويحبُّ الله ورسوله) ولم تكن قوَّة الإمام علي قوة بشرية طبيعية بل كانت قوَّةً خصَّه الله تعالى بها فقد رُوي أنَّه لما حمل عليه مرحب اليهودي ضربه فأطار تُرسه من يده، فتناول الإمام علي كرَّم الله وجهه باباً كان عند الحصن فترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله الحصن، ثمَّ ألقاه عن يده وراءه ثمانين شبرا، قال الراوي: فجهدتُ أنا وسبعة نفرٍ على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر. وقد قاتل في غزوة الخندق فارسَ الأحزاب عمرو بن عبد ودٍّ حين خرج وقال: هل من مبارز؟ فأحجم الناس وقال علي كرَّم الله وجهه: أنا له يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس فإنه عمرو بن عبد ود. ثمَّ كرَّر عمرو النداء وجعل يوبِّخ المسلمين ويقول: أين جنَّتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون ليَّ رجلا وأنشد:
ولقد بححتُ من الندا ء بجمعكم هل من مبارزْإنَّ الشجاعةَ في الفتى والجودَ من خير الغرائزْ
فقام عليٌّ كرَّم الله وجهه وقال: أنا له يارسول الله، فقال له: إنه عمرو فقال: وإن كان عمرأ. فأذن له فأقبل عليه وهو ينشد:
لا تعجلنَّ فقد أتا ك مجيب قولٍ غير عاجزْذو نيَّةٍ وبصيرة والصدق منجي كلِّ فائزْإني لأرجو أن أُقيـ مَ عليك نائحة الجنائزْ
وفي روايةٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وقال: اللهمَّ أعنه عليه ـ وفي روايةٍ ـ هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. فمشى إليه عليٌّ كرَّم الله وجهه فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدتَ الله لا يدعوك رجلٌ من قريش إلى إحدى خصلتين إلا اخترت إحداهما قال: أجل. قال كرَّم الله وجهه: فإني أدعوك إلى الله ورسول وإلى الإسلام. قال: لا حاجةَ لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى القتال، قال: لم يابن أخي فوالله ما أحبُّ أن أقتلك. قال علي: ولكني أحبُّ أن اقتلك. فغضب عمرو ونزل عن فرسه وأهوى إلي عليٍّ بسيفٍ كأنَّه شعلة نار فاستقبله بالدرقة فقدَّ الدرقةَ وأثبت سيفه فيها، وأصاب رأس عليٍّ فشجَّه وضربه عليٌّ كرَّم الله وجهه على حبل عاتقه فسقط، وكبَّر المسلمون فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير عرف أن علياً كرَّم الله وجهه قتل عمراً لعنه الله.وفي تفسير الفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلَّم سأل عليَّا: كيف وجدتً نفسك معه يا علي؟ قال: وجدته لو كان أهل المدينة كلُّهم في جانب وأنا في جانب لقدرتُ عليهم. وفي صفين خرج رجلٌ من أهل الشام فقتل أربعةً من أصحاب عليٍّ كرَّم والله وجهه وعليٌّ قد جاوز الستين فخرج إليه الإمام فقتله وقتل ثلاثة آخرين فقال: أربعةٌ بأربعة والجروح قصاص. ورجع فقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما: اخرج إليه الآن وادعه للمبارزة فإن الجهد قد بلغ منه. فقال له معاوية: والله ما أردتَ إلا قتلي ليكون لك الأمر من بعدي فأنت تعلم أنَّ عليَّاً لم يهزم قط.
مقتل الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه
بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام عليَّاً بالشهادة قال الإمام علي:إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عليُّ إنَّ أمَّتي سيفتنون من بعدي. فقلتُ: يا رسول الله أو ليس قد قلتَ لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة، فشقَّ ذلك عليَّ فقلتَ لي: أبشر، فإنَّ الشهادة من ورائك. فقال لي: إنَّ ذلك لكذلك، فكيفَ صبرُك يومئذ؟ فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر. وكان من أوَّل الإسلام حريصاً على الشهادة وقد ذكر هذا في قوله كرَّم الله وجهه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا احمرَّ البأس قدَّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرَّ السيوف، فقُتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة، وأراد من شئتُ ذكرتُ اسمه مثل الذي أرادوا ولكنً آجالهم عُجِّلت ومنيَّته أجِّلت. وقال لقومٍ رموه بالتردد في القتال: والله لابن أبي طالبٍ آنس بالموت من الطفل بثديِ أمِّه. وكان يقول عندما كثر خلاف الناس له: أما آن لأشقاها أن يخضِّبَ هذه من هذه. ويشير إلى رأسه ولحيته. وقال كرَّم الله وجهه في سحرة اليوم الذي ضُرب فيه: ملكتني عيني وأنا جالس فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما لقيتُ من أمَّتك من الأود واللدد (الإعوجاج)؟ فقال لي: أدع عليهم. فقلت: اللهمَّ أبدلني بهم خيراً لي منهم، وأبدلهم بي شرَّاً لي منهم.
ولما خرج للصلاة صاحت الإوزات اللاتي كنَّ في البيت واعترضن طريقه، فزجرتهنَّ السيدة زينب رضي الله تعالى عنها، فقال الإمام كرَّم الله وجهه: دعيهنَّ فإنهنَّ نوائ!
.وقد تآمر ثلاثةٌ من الخوارج على مقتل سيدنا علي وسيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً فأما الذي قصد معاوية فأصابه ولم يقتله، وأما الذي قصد عمرو بن العاص فقتل خارجة بدلا عنه وهو يظنُّه عمراً وأما الذي قصد علياً كرَّم الله وجهه فأصابه في مقتل وذكر ابن عبدون هذه الحادثة فقال:
وليتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ فدتْ عليَّاً بمن شاءتْ من البشرِأي ليتها في ذلك اليوم فدت عليَّاً رضي الله عنه بجميع أهل زمانه.
جاء عن أحد أصحابه كرَّم الله وجهه: إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصلُّون في ذلك الشهر من أوَّل الليل إلى آخره إذ نظرتُ إلى رجالٍ يصلُّون قريباً من السدَّة قياما وركوعاً لا يسأمون، إذ خرج عليهم علي بن أبي طالبٍ في الفجر فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة، وبعدها رأيتُ بريق السيف وسمعتُ قائلا يقول: الحكم لله لا لك يا علي، ثمَّ رأيتُ بريق سيفٍ آخر وسمعتُ عليَّاً يقول: لا يفوتنَّكم الرجل.. قيل فأما بريق السيف الأوَّل فكان شبيب بن بحيرة وأما بريق السيف الثاني فكان ابن ملجم لعنهما الله تعالى، وقالت السيدة زينب رضي الله تعالى عنها لما رأت الجرح: ليس بأبي من بأس، فقال ابن ملجم لعنه الله: والله لقد اشتريتُه بألف ـ وسممته بألف، فإن خانني فأبعده الله ـ يعني السيف،
أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرةٌ لكم وغداً مفارقُكم، غفر الله لي ولكم،، وإنما كنتُ جاراً لكم جاوركم بدني أياما، وستعقبون مني جثَةً خلاء، ساكنةً بعد حراك، وصامتةً بعد نطقٍ، وليعظْكم هدوِّي وخفوت إطراقي، وسكونُ أطرافي، فإنَّهُ أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع، وقد أوصى ولديه الحسن والحسين رضي الله عنهما لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيءٍ منها زوي، وقولا بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عونا. يا بني عبد المطَّلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقْتُلُنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إن أنا متُّ فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثَّل بالرجل فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور. إيمانٌ وتسليمٌ بما قضى الله سبحانه وتعالى ودعوةٌ إلى إقامة الحقِّ والعدل يودِّع بها الدنيا.
إنَّ سيرة الإمام علي كرَّم الله وجهه يجب أن تعود إلى أجهزتنا الإعلامية في المجتمع السني الذي يجتنب ذكرى الإمام علي وذكرى آل البيت حتى ينفي عن نفسه تهمة التشيُّع، إنَّ التاريخ ورجاله يجب أن يبوِّءوا هؤلاء الرجال منازلهم وألا يبخسوهم حظَّهم فهم حملة لواء الإسلام والزائدين عن حوضه والحاملين أمانته حين كان أهل الإسلام قلَّةً مستضعفين.قال الشيخ فخر الدين رضي الله عنه:
وإنِّي ظلُّ نورٍ من عليٍّ وعنْ قولٍ سديدٍ ما انْحَسَرتُقضيتُ سِنِيًّا أرتجي ساعةَ اللِّقالِذاكَ تعانقنا عناقَ الأحبَّة