خطاب مولانا الشيخ محمد الشيخ ابراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني
للأمة الإسلامية بمناسبة الحولية البرهانية 2018
تحميل نسخة للطباعة PDF
سماع الخطاب صوتا
مشاهدة الخطاب فيديو
للأمة الإسلامية بمناسبة الحولية البرهانية 2018
تحميل نسخة للطباعة PDF
سماع الخطاب صوتا
مشاهدة الخطاب فيديو
- خطاب مولانا الشيخ محمد حولية 2017
- خطاب مولانا الشيخ محمد حولية 2016
- خطاب مولانا الشيخ محمد الحولية 2015
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الخافض الرافع .. رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم، فهذا غنى وذاك فقير، وأشهد أن سيدنا محمد النور المبين والسراج المنير، أنزل الناس منازلهم فوقّر الكبير ورحم الصغير، ما رد سائلا قط ، بل جاد بالقليل والكثير، دعا قومه لنجاتهم فتطاول عليه كل مهين وحقير، ودارت الأيام دورتها وخضع الطغاة له فكان لهم راحم ، ولم يعتب ولم يطلب التبرير، فهو النور الأعظم والرسول الأجل الأكرم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم المرسلين ، وإمام الوارثين ، مَن ختم الله به طريق الرسالة ، وآله من بدأ بهم طريق الولاية ، نجوم الاهتدا ، وأصحابه مصابيح الدجى ( من أَمَّهم يُكفى الردى ) فكانوا أَولى الناس بالاتباع والاقتدا ، قال مولاى:
نَعْتُ الأَمَاجِدِ كَالنُّجُومِ وَنُورِهَا *** بِهِمُ اهْتَدَى مَنْ ضَلَّ فِي الْوِدْيَانِ
أما بعد ...الأحباب من شتى البقاع..السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
يقول سبحانه وتعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) 111 الإسراء
قال مولاى رضى الله عنه :
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ *** لِيَجْعَلَ عَزْمِي فِي فَتِيِّ السَّوَاعِدِ
ومن كريم الأخلاق التى نستقيها من المعلم الأول صلوات ربى وسلامه عليه، حينما قال له رجل: ﴿ دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ﴾ سنن ابن ماجه.
فالاستغناء عمّا فى أيدى الناس خُلق كريم، ,وأولى بالمريد التخَلُّق به، فنظرك إلى ما فىِ أيدى الناس، إنما يفتح الطريق إلى الطمع وإلى ذميم الخصال، وأرشدنا مولاى الإمام فخر الدين رضى الله عنه بقوله:
مَا يَقُولُ النَّاسُ عَنِّي غَيْرَ أَنِّي *** كُنْتُ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ أَزْدَرِيهِ
يَا مَنِ اسْتَغْنَى بِدُنْيَا *** إِنَّ مَيْتَ الشَّاةِ شَحْمُ
وأما خواص الخواص فلم يُجبهم عن الله شىء، قطعوا حجب الوهم وحصل لهم من الله العلم والفهم، فلم يتعلقوا بشئ ولم يُحجبهم عن الله شىء، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، ولما كان الوهم ينشأ عن الطمع، والطمع ينشأ عنه الذل، والعبودية واليقين ينشأ عنهما الورع، والورع ينشأ عنه العز والحرية، نبه عليه بقوله: ( أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت فيه طامع ) .
قلت إنما كان الإنسان حرا مما أيس منه لأنه لما أيس من ذلك الشئ رفع همته عنه وعلقها بالملك الحق، فلما علق همته بالملك الحق سخر الحق تعالى له سائر الخلق.
والرفعة بالنسبة للأمم تُقاس بمدى تماسكها وترابطها ووحدتها، وتقدُّمها ورقيها، ولعل أهم ما يضرب هذا الترابط والتماسك ويؤدى والعياذ بالله للفرقة ودرب التفريق، ما نراه من نشر الأكاذيب والشائعات التي تخلق مناخا من الفوضى المجتمعية، فتؤثر على حال الأمة بأسرها، فتنال من رفعتها وتقدُّمها.
فوجب علينا تهيئة أهم بنية فى أساس المجتمع ألا وهى بنية ( الفرد ) فالتهيئة لابد أن تأتى من النشأ ألا وهم ( أطفالنا ) فبدلا من أن تتركهم وتترك للآخرين المجال فىِ التأثير عليهم، وانجرافهم نحو أفكار من شأنها الهدم وليس البناء، والتفريق وليس الوحدة، ويأتى يوما تحاول فيه أن تلغى ما قد تأصل في نشأتهم فلن تستطيع، فكان الأحرى بك أن تهيئ المناخ لهذه البراعم المتفتحة بالتربية الصالحة، وتزويدهم بالعلم المفيد، ذلك للوصول إلى المرُاد وهو بناء فرد نافع لمجتمعه وأسرته، ولصلاح دينه ودنياه، لأن العلم يكسو العبد أجمل حلة.
أحبابى فى رسول الله..
نجد على مر الزمن أن الأشخاص الذين يؤثرون فِى مجتمعاتهم، هم الذين نحتوا مكانا لهم في ذاكرة التاريخ، وهم من ذكرهم التاريخ بمحمود السيرة، ضَحّوا وناضلوا من أجل إقامة العدالة واستيضاح الحق، وجعلوا من أنفسهم مضرب مثل لكافة الناس، فحجزوا مكانتهم السامية فى طليعة العظماء والخالدين، فيأخذ المرء موقعه فى نفوس الناس ويُحفر اسمه في سجلات التاريخ بمقدار ما حقّق من تقدم فِى مجالات العلم.
قال مولاى رضى الله عنه :
الْعِلْمُ شَأْنِي وَالْمُعَلِّمُ قُدْوَتِي *** وَالْغَيْبُ عِنْدِي أَكْمَلُ الإِعْلاَمِ
وَغِرَاسُ عِلْمِي فِي الْقُلُوبِ كَأَنَّهُ *** لِعُلُوِّهِ النَّخْلُ ذُو الأَكْمَامِ
وكانت الهمة العالية هى الطريق نحو الرفعة وسمو المقام عند الحق وبين الخلق، ومن هان عليه المال توجّهت إليه الآمال، ومن رقى فى درجات الهمم عظم فى عيون الأمم، ومن كبرت همّته كثرت قيمته.
وإذا تأملنا حياة العظماء فى المجتمعات المعاصرة والغابرة نجدهم ذوى همم عالية وتطلعات رفيعة، فمما لاشك فيه أن يشرئب الإنسان للمراتب العلا فى الدنيا ويتمناها فى الآخرة، والسبيل لذلك فى قول مولاى رضى الله عنه :
وَضَحَ السَّبِيلُ حَلاَلُهُ وَحَرَامُهُ *** فَلْيَتَّقِ أَحْبَابِيَ الشُّبُهَاتِ
صَفْحاً إِذَا آبَ الْمُسِيءُ بِتَوْبَةٍ *** بَيْنَ الرِّجَالِ عُرِفْتُ بِالصَّفَحَاتِ
أما التدنى والعياذ بالله وسوء الخلق واتباع الهوى والسير خلف الشهوات، فيجلب على الإنسان ما لا يحمد عُقباه، وفى اتباع الهوى يقول الإمام الشعبي : ( انما سمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه )
وإن أبغض العباد إلى الله سبحانه وتعالى من كان همُّه بطنه وفرجه، فعن سيدنا أبى الدرداء رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين فى العلم، فقال: ﴿ من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم ﴾ الحافظ السيوطى في الجامع الكبير.
فأشد العباد بغضا إلى الله تعالى هم المنغمسون إلى آذانهم بشهوتي البطن والفرج، فما رفع شأن امرئ كهمته ولا وضعه شىءٍ كشهِوته، وقيل: ( أول الشهوة طلب وآخرها عطب ) .
يتجدد بنا اللقاء، بذكر الإمامين الجليلين، سيدنا ومولانا الإمام فخر الدين وسيدنا ومولانا الإمام إبراهيم رضى الله عنهما، مَن بطيب الفعال ومحمود الخصال ذكُروا، تتعطر المجالس بحديثهم، فكانوا ومازالوا منارا للطريق، فوقع حديثهم في الاذهان جارى، وطرق أقوالهم فى المسامع والوجدان سارى.
رسموا المسار الصحيح للمسلم ليترقى درجات فوق أخرى بعيدا عن الشهوات ، فيبتدئ بالعلم فقال جل شأنه ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) 11 المجادلة، وقال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ﴿ مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ ، أَعْطَاهُ اللَّهُ كِفْلَيْنِ مِنَ الْأَجْرِ ، وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ ، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كِفْلًا مِنَ الْأَجْرِ ﴾ السنن الكبرى للبيهقى، ففى كل الأمرين خير، فبالعلم تظهر معادن الناس، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم بقوله ﴿ النَّاسُ مَعَادنُ فى الخير والشر، خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام اذا فقهوا ﴾ مسند الإمام أحمد
وها نحن نقف أمام قول مولاى الإمام فخر الدين رضى الله عنه :
الْعِلْمُ غَثٌّ أَوْ سَمِيـ *** نٌ لِلْقُلُوبِ يُخَضِّبُ
وبالعلم يأمن المسلم من لدغات شياطين الإنس، التي لا تودى بحياته فحسب بل تودى بدينه ودنياه، فلا يكون له من هذا الباب سبيلا للدخول، بل إذا ولج باب العلم يُفتح له بعده باب العمل، كما قيل ( فمن عمل بما علم فتح الله له مالا يعلم ) .
وعن سفيان بن عيينه رضى الله عنه قَالَ: ( أَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ مَا يَعْلَمُ ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ أَخْشَعَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ).
ولا ينتهى العمل بالمسلم عند هذا الحد، بل يوصله إلى حلقة أخرى لتكتمل الثمرة و تُفيد و تَستفيد، فيزج به إلى ( المعاملات ) ويحُدّثنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بقوله ﴿ إنَّ للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ستا : يُسَلمُ عليه إذا لقيَه، ويَعودُه إن مرضَ، ويُشمتُه إذا عَطَس، ويَشهِدُه إذا ماتَ، ويُجيبُه إذَا دعاهُ، و ويحب له ما يحب لنفسه، ويكرهُ له ما يكرهُ لنفسه ﴾ سنن الترمذى.
وبعد أن تنقَّل المسلم من العلم إلى العمل وانتهى به المآل إلى المعاملات، تأتى الطريقة لتبنى فوق هذا البناء صرحا أساسه حميد الأخلاق وكريم الخصال، و يَسطَع نجم هذا الأمر عند شروع المؤمن فىِ الدخول إلى مقام ( التوفيق ) بحثا عن إصلاح أمره قدر الاستطاعة، فقال سبحانه وتعالى ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ... )88 هود.
فكان صلاح المرء وتوفيقه بأن يعمل دوما على اتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم ، كما أمر المسلمين أن ينظروا إلى صلاته فقال صلى الله عليه وسلم ﴿ صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونى أُصَلّى ﴾ صحيح ابن حبان، فأَولى بالمؤمنين أن يتخلقوا بـ ( أخلاقه ) صلى الله عليه وسلم وأن يلتحقوا بها، فخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى الأخلاق التى يوفق المرء معها أخلاقه، وقد وصفه الحق فىِ محكم التنزيل بقوله ( وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ ) 4 القلم
وكان الخُلق الحسن شطر وصيته صلى الله عليه وسلم لسيدنا مُعَاذ بن جَبَلٍ رضى الله تعالى عنه عندما قَالَ : ﴿ قُلتُ يَا رَسُولَ الِلّه أَوصنى ، قَالَ: اتَّق الِلَّهَ حَيثُمَا كُنتَ، وخَالق النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ ﴾ مسند الإمام أحمد، ومظهر الأخلاق الكريمة أي ـ الآداب ـ الذى نجده علامة للمستقدمين، كما أخبرنا مولاى فخر الدين:
فَعَلاَمَةُ الْمُسْتَقْدِمِيـ *** نَ مَعَ الْكِرَامِ تَأَدُّبُ
ونجد نجوم الهداية دائما ما ينيرون لنا الطريق، فعندما أشار مولاى الإمام فخر الدين رضى الله عنه إلى ( السَّيدُ العَبدُ وَالإنسَانُ ) مُناديا فيه (الرَحمَة والقُدوَة ) بعد أن همس قائلا ( يَا سَيدى ) أنت ( للسّيَادَة رَبُّ ) فقد قلت ( وَقَولُكَ هَدىٌ ) بأن الذخيرة متمثلة فى عترة الخلفاء حاملين فيهم عطاء وهدى سيد الأنبياء ( فَكُن يَا مُريدى للكرَام مُقَلدا ) فحقا ( السَّادَةُ الأَقطَابُ فينَا أَنجُمٌ ).
فالانتباه لهذا الأمر واجب حتمى، فمن ذكر اسم الحبيب صلى الله عليه وسلم مُجردا من السيادة، فلينتبه لأن ﴿ الدَّالُّ عَلَى ا لخير كَفَاعله ﴾ مسند الإمام أحمد، واحذر قول الحبيب المحبوب عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام ﴿...وَمَن سَنَّ سُنَّة سَيئَة كَانَ عَلَيه وزرُهَا...﴾ سنن ابن ماجه، فانظر فىِ أى الفريقين تضع نفسك.
ولعلنا نجد من يقول فى هذا الزمان: هل هذا الأمر جوهرى لكى نعوّل عليه فِى تلك الفترة من حياتنا؟ وفِ ظل كل الصعوبات التى تواجه الناس فِى أمور حياتهم؟
نقول لهم إذا عدّدنا الآداب وقلنا بالمفهوم السابق، فتركناها لوجود ما هو أهم منها، لأصبح الناس أمام مجتمع فوضوى لا أخلاق فيه، فأدبك مع الحبيب صلى الله عليه وسلم إنما هو ركيزة ونواة لباقى الآداب، فيفتح لك أبواب آدابك مع والديك، وأدبك فىِ الحوار، حتى ينتهى أدبك إلى الحيوان أى الرفق به، ونجد سيدى ابن المبارك يقول: ( طلبنا الأدب حينَ فاتنا المؤدّبون )
وقيل: ثَلاث خصال لَيسَ معهن غربة: مجانبة أهل الريَب، وحُسنُ الأدب، وكف الأذى
وقيل فِ المعنى:
يزينُ الغريبَ إذا ما اغتربْ
ثلاثٌ ؛ فمنهنّ حسنُ الأدب
وثانيةٌ حسنُ أخلاقِه
وثالثةٌ اجتنابُ الرِّيَب
فتوحيد الأمة نوع من الرقى والرفعة، لإظهار سماحة الدين وعدالته، فبدلا من اتّهام الآخرين بالكفر والإلحاد علينا إظهار محاسن ومكارم الأخلق المتمثلة فى أقوال وأفعال وإشارات سيد الأكوان ( أَحمَدُ مَن حمَد ) الذى أثنى كل الخير على الأنبياء والرسل السابقين، وخير دليل تذييل سورة البقرة بأن الحبيب آمن بما ( أُنزلَ إلَيه من رَبه ) وكذا المؤمنون ( كُل آمَنَ بالِلّه وَمَلاَئكَته وَكُتُبه وَرُسُله ) والكل لا يفرقون ( بَينَ أَحَدٍ من رُسُله ).
فلن يأتى الصلاح من تلقاء نفسه، بل من مجاهدة النفس ومحاسبتها، فيتجلى دور الأوراد للقيام برحلة إصلاح المضغة التى من شأن صلاحها صلاح سائر الجسد، وبفسادها يفسد سائر الجسد، فما أن صَلُحَت هذه المضغة، ارتحل المؤمن إلى الأمر الذى من أجله كان ما كان، ألا وهو ( السير ) وقال الإمام النابلسى رضى الله عنه ( إلى الذات سيرى فى مراتب أسماء ) فيدخل المريد فى مبادىء الإحصاء ، من بعد التعب والعناء، ليهنأ بالتقريب والعيش الرغيد.
ما ذكرناه هو حال السائرين ترتفع فتنخفض درجاتهم بحسب ما اجتهدوا للوصول إليه من عزم قوى وهمة عالية ومجاهدة النفس والدنيا والشيِطان والهوى، وشتان بين المحب والحبيب، وبين المريد والمرُاد:
فَأَيْنَ مُحِبٌّ مِنْ حَبِيبٍ وَمُوصَلٍ *** وَأَيْنَ مُرِيدٌ مِنْ مُرَادٍ وَثَابِتٍ
وَيُمْنَحُ قَدْراً لاَ بِجَهْدٍ وَهِمَّةٍ *** لِيُصْبِحَ مَأْمُولَ الْقُلُوبِ الْحَظِيَّةِ
مَنَازِلٌ قُدِّرَتْ لِلذِّكْرِ أَجْمَعِهِ *** وَبَعْدَهَا نُصْطَفَى هَذِي بِدَايَتُنَا
أحباب رسول الله..
عندما قال الإمام فخر الدين رضى الله عنه ( اللَّهُ مِنْ بَعْدِ الزِّيَادَةِ زَادَنِي ) زعم البعض زورا وبهتانا أن معنى الزيادة هنا ( زيادة تتم النقص ) فصحح فهمهم ( وَلاَ زَعْمٌ بِأَنِّي زِيدَ قَدْرِي ) فكانت الزيادة المقصودة هنا زيادة ( المعارف الإلهية والمعانى الربانية ) التى لا تنتهى، من باب قوله تعالى ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) سورة الضحى، فكشفِ عن الفهم الراقى لترقى خلفاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فحقا :
وَأَعْرِفُ أَقْدَارَ الرِّجَالِ جَمِيعِهِمْ *** وَلَكِنَّهُمْ ضَلُّوا ابْتِدَاءَ مَكَانَتِي
وَعَنْ مَنَازِلنَا أَمْسِكْ فَإِنَّ لَهَا *** صَحَائِفٌ أُودِعَتْ أَيْدِي أَئِمَّتِنَا
وحين يقترب الوقت ليضع خاتمة لنهاية يوم مضى وبداية آخر جديد، تقترن حبَّات الزمان بنفحاتٍ كحبات اللؤلؤ والمرجان، فننظر بين دفتى كتاب الأيام ليطل علينا أبهى منظر بتعانق حولية الإمامين الجليلين مع مولد إنسان العين، ديَّار الرضا، حلاَّل العُقَد، حُجة التوحيد، عال القدر، قطب الأقطاب، العارف بالله سيدى إبراهيم القرشى الدسوقى رضى الله تعالى عنه وقد أوجز الإمام سيدى فخر الدين رضى الله عنه بصريح العبارة التى تحمل فىِ طيّاتها مكنون الإشارة حين قال عنه ( إنَّهُ السَّائرُ بى نحوَ الرَّشَد ).
ويزداد الحُسن زهوا وبريقا بأرواح رقصت وغرّدت حين ازداد العناق وتشابكت نفحات الدهر بمولد صاحب الرمحين مع منحة ( الإسراء ) التى اجتمعت بفرد الأربع الحُرُم، لتزدان أيام دهر الزمان، الذى كان فيه جزيل العطاء، وزاده من الرفعة والتكريم بأن حملت فيه السيدة آمنة بسيد الأولين والآخرين، وتكتمل الصورة حُسنا على أهل السموات العال برؤية مرآة ذات الحُسن، فنالوا من الشرِف بهذه الرؤية ما نالوه، قال مولاى رضى الله عنه:
الْقَدْرُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي قَدْرٍ إِذَا *** سَكَتَ الرَّعِيَّةُ عَنْهُ وَالأُمَرَاءُ
أعظم ما يقدمه كل برهانى للطريق، التفوق فىِ الآداب والتعامل مع الآخرين وبالأخص، أبناء العموم، والتفوق فِى العمل والدراسة وشئون البيت، وفى معاملتك مع والديك والزوجة والأبناء، والتفوق أيضا فىِ احترام الكبير وفى تربية الصغير.
والتفوق فىِ أورادك ومحبتك وأدبك مع شيخك وتواصلك مع أبناء الطريق، والفهم الراقى لآداب وسماحة الطريق، حيث أنك تُمثّل الطريق فى مجتمع العمل والأسرة والحى، وبالتالي تصبح سفيرا للطريق، لذلك كان لزاما عليك أن تكون متفوقا فى أدبك وتعاملك وكلامك، فالتفوق يأتى بالعزم والمواظبة على الأوراد وطاعة أولى الأمر وبذلك تكون أُشعلت فى داخلك نار المحبة.
ومازلنا مع ما تهواه النفوس وترتاح له القلوب وهو الحديث عن سماحة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فآيات محبته وإيثاره وصبره على أذى الخَلق تغزو القلوب والأرواح، فنستفيد من هذه الدروس وتكون نبراسا لنا فى ديننَا ودنيانا.
وكما أن المصائب تجمعن المصابين، فطريق الحب يجُمع المحبين، وإذا استحكم الوجد بالقلب اصطَلَت الروح:
وَالْوَجْدُ يُلْقِي فِي الْقُلُوبِ وَدَاعَةً *** رُوحُ الْمُتَيَّمِ تَصْطَلِي بِهُيَامِي
وكالحال وكل عام لنا شعار لذكرى الإمامين الجليلين، فيقول مولاى سيدى فخر الدين رضى الله عنه فِ نظمه الفريد:
رَفَعَ اللَّهُ لِلْمُتَيَّمِ قَدْراً
فبدا فِى هذا القدر يركض الأولياء حتى الفناء، فأولهم باغٍ وآخرهم فنا
وصلّ الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكل عام وأنتم بخير
- أول خطاب لمولانا الشيخ محمد بعد توليه الخلافة الحولية 2004
- آخر خطاب لمولانا الشيخ ابراهيم قبل انتقاله ـ خطاب الحولية 2003
- خطاب مولانا الشيخ ابراهيم فى زيارة الامارات العربية عام 2002
تعليقات: 0
إرسال تعليق